مخابرات بالمكسّرات ومخابرات بالبشاميل

مصر حافية على جسر الأوهام

(1)

لم تخالجني حيرة من قبل كتلك التي خالجتني عندما استمعت الى تسريبات المحادثات الهاتفية للنقيب أشرف الخولي، الضابط بفرع الاستخبارات العسكرية بالقوات المسلحة المصرية مع بعض رموز الاعلام المصري، والتي ذاعت مؤخرا وفرضت نفسها على عناوين الاخبار خلال الاسبوعين الماضيين. وموجز مضموناتها تدور حول التعليمات الأميرية الصادرة عن جهاز الاستخبارات العسكرية لبعض رموز الاعلام المصري حول ما عسى ان يكون عليه مسار الاعلام في قضايا محددة.

ولا مشاحة على نطاق المبدأ وفي واقع الممارسة في أن تصدر المخابرات العسكرية المصرية أوامرها وتعليماتها للاعلاميين والصحافيين المصريين وفي أن ينصاع هؤلاء فيقولون: حاضر سعادتك! ليس هناك وجه للغرابة كما يتوهم البعض، إذ هو في علم الكافة ان مخابرات المحروسة منذ عهد الملك مينا موحّد القطرين وصاحب التاجين، وخلفائه من لدن أمنحتب ومنقرع وأحمس، هي التي تتولى ادارة مفاتيح صياغة الرأى العام في مصر.

وكما ان مصر أم الدنيا فإن مخابراتها هي أمُّ المخابرات. والأمهات لهن مطلق الحرية في تربية وتوجيه ابنائهن وبناتهن في ملّة الاعلام المصري وفقا للأصول التربوية المخابراتية المستقرة هناك. والصلة بين المخابرات والاعلام في مصر صلة واشجة تقوم على حنان الأُم وبرّ الأبناء. وما أروع الحنان وما أجمل البر.

(2)
ولكن هناك وجهين اشكاليين تبدّيا لي في تسريبات محادثات النقيب الحبيب اشرف الخولي، أولاها ان الرتبة التي يحملها هذا الشاب الجذاب متواضعة نسبيا، بل متواضعة للغاية قياسا بجلال التكليف المسند اليه. وكنت أحسب ان مخاطبة اعلاميين بارزين، تجاوز بعضهم السبعين عاما مثل الصحافي القامة مفيد فوزي، وتزويدهم بالتوجيهات مما ينبغى ان يضطلع به ضباط اعلى رتبة من الشاب أشرف الذي يبلغ من العمر بالكاد ستّا وعشرون عاما، على الاقل من قبيل الاحترام لقادة ورموز الاعلام المصري الذين أراقت التسريبات منهم ماء الوجوه واهرقتها إهراقا.

أما الوجه الاشكالي الآخر فهو ان الحبيب النقيب الشاب أشرف، كما تبيّن، لا يتبع لجهاز المخابرات العامة المصرية، كما كان معتقدي في اول الأمر، ولا حتى لجهاز مباحث أمن الدولة الذي تبدّل اسمه بعد ثورة 25 يناير فأصبح يحمل اسم جهاز الأمن الوطني، وهو الجهاز الذي يتحكم في كل صغيرة وكبيرة على أديم المحروسة حتى ان ترقيات اساتذة الجامعات لا تجاز الا بعد موافقته. بل أن النقيب اشرف ينتسب الى الاستخبارات العسكرية في القوات المسلحة. وهنا يصل الأمر الى مداه فينبلج ضوء الفجر ويسفر وجهه بحقيقة تؤشر الى ان الجهة الآمرة الناهية، التي تحكم وتراقب وتضبط مسار الأشياء في المحروسة، على مبعدة بضعة سنوات من (ثورة يناير) هي العسكر. وان الجيش الذين استولى على السلطة وأرسل الملك فاروق الى روما في يوليو 1952 مازال يسوس البلاد وينادى مناديه في الناس: (يا قوم أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار من تحتي أفلا تبصرون).

(3)
حصل خير. وما كان لنا في الأصل ان ندخل بين بصلة الدولة العسكرية المخابراتية وقشرة الاعلام المصري. إحنا مالنا؟ ثم ان جميع قادة وضباط المخابرات المصرية المدنية والاستخبارات المصرية العسكرية هم أحبابنا و(اخواتنا) كما يقولون في شمال الوادي. وكذلك اعلاميوها وصحافيوها. وفي نهاية المطاف فإن مصر تبقى دولة مستقلة ذات سيادة. وأن يُدار اعلامها وصحافتها بواسطة النقيب أشرف أو الملازم حمادة أو الصول مخيمر قضية داخلية لا شأن لنا بها. الذي لنا به شأن هو الكيفية التي تريد مخابرات المحروسة ان تدير بها شؤوننا نحن في السودان. والقيادة المصرية منذ عهد طيب الذكر اللواء (البصاص) محمود سيف اليزل خليفة اول سفير لها في السودان عقب استقلاله عام 1956 ظلت تنظر الى السودان وتتعامل مع باعتباره ملفاً من ملفات ادارة المخابرات. وما فتئت هذه الحقيقة تراوح الواقع المعاش على مر العهود والحقب رغم إدعاءات الدكتور مصطفى الفقي، مدير مكتب الرئيس السابق حسني مبارك للمعلومات، أنه نبّه الرئيس الى عدم رضاء السوادنة وتذمرهم من ذلك الوضع، وأن مبارك استجاب الى طلبه، او كما قال، بأن يكون سفراء مصر في الخرطوم من رجال الدبلوماسية، لا المخابرات.

وجه التغيير الوحيد في المشهد الحالي هو ان الشأن السوداني لم يعد من اختصاص جهاز المخابرات العامة المصري كما كان الحال في الماضي. بل أصبح أمرنا برمته في يد فرع الاستخبارات العسكرية التابع لجيش المحروسة، فهو التي يخطط ويقرر وينفذ وإليه وحده ترجع الامور. بينما طال التهميش جهاز المخابرات العامة العريق الذي يتبنى رؤى مغايرة ومخالفة لرؤى العسكر في الشأن السوداني وفي غيره. وقد كان من مؤدى هذا الخلاف ان فقد رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء خالد فوزي موقعه نهاية الاسبوع الماضي، وتم اسناد القيادة بصفة مؤقتة الى مدير مكتب رئيس الجمهورية اللواء عباس كامل، كما طارت الاخبار عبر القنوات والوكالات.

(4)
وجه الملاحظة والتحفظ والاعتراض الوحيد هو ان الاحباب و(الاخوات) في مخابرات مصر العسكرية يريدون أن يديروا السودان الدولة عندنا كما يديرون الاعلام الموجّه عندهم. وفي كل مرة تتبيّن لهؤلاء ان هناك وجوهاً للاستعصاء يتعذر معها التعامل مع السودان كدولة من الدرجة الثانية فإنهم لا يجدون أمامهم إلا الردح والتشنيع والشتيمة وإظهار الاحتقار للخصم. مع ان المتعمق في امور السياسات الاقليمية والدولية كلها لا بد ان يدرك، خاصة مع التكرار الممل، أنه لا يمكن اصلاً لأي خلاف بين دولتين ان يُحل بالشتم والتشنيع و(فرش الملاية)، وهو تعبير مصري يعرفه اهل الحواري الشعبية. يردح المصري: يا اولاد البوابين، فيصمت السوداني، ثم اذ ارهقه الصمت صرخ في وجه شاتمه: يا اولاد الرقاصات!

نظرة مخابرات مصر للسودان خلال ربع القرن الاخير تشوبها دائما مرارات وغصص في الحلوق صنعتها عوامل متضافرة تمترست في تاريخنا الحديث، في طليعتها ابتلاع هؤلاء الذين عرفوا بأنهم “ياكلوها والعة” لخديعة انقلاب يونيو 1989 فتجرّعوا الكوب الانقاذوي كله غداة الانقلاب ولأعوام بعدها، هنيئاً مريئاً، وبل وتطوعوا فجرعوه لغيرهم. حتى جاء اليوم الأغبر الذي وقف فيه فرعون مصر حسني مبارك خلال مؤتمر صحافي شهير عام 1996 ليعترف بخيبة مخابراته: (أنا مش حكابر. احنا اتخمينا). مع ان الأصل هو ان (اولاد البوابين) هم الذين يجوز عليهم (الخم)، وليس الأسياد والباشوات! ولكن ذلك كله من ركام الماضي والماضي، بخيره وشره، لا يهمنا. الذي يهمنا ويقلقنا ويشغل بالنا غداة يومنا هذا هو ما ظلت تدبره الاجهزة الاستخبارية المصرية خلال الاعوام القليلة الماضية إمتداداً ووصولا الى الاسابيع القليلة المنصرمة.

اول أمس الجمعة عاد الرئيس عبد الفتاح السيسي الى سياسة العصا والتهديد المبطن، بعد هدنة قصيرة لوح خلالها بالجزر والفجل المروي بمياه الصرف الصحي. قال، حفظه الله، ان مصر لديها جيش قوي وانها قادرة على حسم من يهدد أمنها القومي، ثم اضاف: “إننا حاضرون بقوتنا والجميع يعلم قدرة مصر”. يا ساتر. و بالطبع فإن (الكلام ليك يا المنطط عينيك)!

(5)
من بدائع الاستخبارات العسكرية المصرية في إدارتها للشأن السوداني من زاوية ما تحسبه مقتضيات الامن القومي للمحروسة أنها تطرح نفسها اقليميا ودوليا باعتبارها الوكيل الحصري المعتمد للمملكة السعودية ودولة الأمارات العربية، المكلف بحمايه مصالح هاتين الدولتين والحفاظ عليها في القارة الافريقية بكاملها والقرن الافريقي تحديدا.

وعقب زيارة الرئيس رجب طيب اردوغان الاخيرة للسودان قام هؤلاء الأحباب بصياغة وتمرير وترويج عدة تقارير استخبارية مصحوبة بدراسات وتحليلات بشأن الدور التركي في البحر الاحمر، وتستند التقارير الى زعم راكز عند البعض في المنطقة ان تركيا اردوغان هي الداعم الرئيسي اليوم لحركة الاخوان المسلمين في العالم. كذلك يزعم الاستخباريون المصريون ويروجون ان تركيا عززت وجودها في الصومال وانها تنسق تسيقا مباشرا وتدعم حركة الشباب الجهادية المتطرفة التي تدين بالولاء الفكري لتنظيم القاعدة.

ومضت المزاعم الاستخبارية التي تسعى حكومة الرئيس السيسي لترويجها بين عربان السعودية والخليج قدما فخلقت خزعبلة جديدة تذهب الى أن السودان منح جزيرة سواكن بكاملها لدولة تركيا، ثم قام بتشبيك المخابرات والجيش التركي بالتنظيمات الاسلامية في اريتريا، بهدف تغيير نظام أسياسي افورقي والسيطرة على امتداد الساحل الاريتري المقابل للمملكة السعودية، ومحاصرة وطرد الوجود الأماراتي في عصب ومصوع. وفي علم الكافة ان دولة الأمارات العربية تحتفظ بقوة عسكرية في عصب تنطلق منها عملياتها العسكرية في اليمن. ولأن ذلك النوع من التواجد العسكري واللوجستي مضافا اليه واقع ان دولة الامارات هي التي تتولى ادارة ميناء جيبوتي فإن كل تلك الدراما تهدف تحديدا وتخصيصا الى اشاعة الرعب في قلوب عربان الامارات والسعودية وايهامهم بأن السودان من خلال علائقه الخارجية المتجددة يشكل تهديدا مباشرا للمصالح العربية في المنطقة.

ومثل ذلك ما تلقته حكومة أسياس افورقي من تقارير بصاصي المحروسة. وقد بلغت كثافة المزاعم مبلغا توهم معه فارس اسمرا الاوحد ان السودان يعمل بالفعل على استبدال نظامه بنظام جديد. ومن ذاق عض الدبيب خاف مجرى الحبل، كما تقول الحكمة الشعبية، وقد رأى أفورقي رأي العين كيف اسقطت حكومة العصبة المنقذة نظام منقستو هايلي مريم عام 1991 وكيف خرج قادة النظام الجديد من طائرة اللواء الفاتح عروة في مطار اديس أبابا وتوجهوا الى قصر الحكم ليتولوا ادارة الدولة الاثيوبية.

وهكذا اختلطت الاوهام بالحقائق في مخيلة افورقي بعد ان زرعت تقارير المخابرات العسكرية المصرية في رأسه، بالاضافة على ما تقدم، بذرة الشك في ان العمل يجري على قدم وساق بتخطيط سوداني يهدف الى تمكين حركة الجهاد الاريتري الممولة افتراضا من تركيا اردوغان، وما وجود تركيا في جزيرة سواكن الا نقطة الانطلاق لإنفاذ ذلك المخطط التمكيني.

أما حبيبنا سلفا كير، كان الله في عونه، فقد لعب بصاصو المحروسة برأسه لعب الصوالج بالأُكَر، فأصبح على قناعة كاملة بأن الخرطوم وراء كل المصائب التي انهالت على رأسه منذ استقلال دولة الجنوب. وهكذا تم الاتفاق بين القاهرة وجوبا بأن تقوم مصر بتدريب وتسليح الجيش الشعبي مقابل شحنات من البترول على ان يسمح سلفا كير للحركات الدارفورية المتمردة بالتواجد والانطلاق من ارض الجنوب مع التكفل بتسليحها وتدريبها ومضاعفة قدراتها القتالية.

ثم ان الاستخبارات العسكرية المصرية هي التي دبرت ورتبت الزيارات السرية التي قام بها الجنرال خليفة حفتر الى اريتريا، وشرعت في تأمين عمليات نقل عناصر الحركات الدارفورية المتمردة الى اريتريا، وإحكام التنسيق بين بين حفتر وأسياس بأمل الشروع في عمليات عسكرية مضادة للسودان في الجبهتين الشرقية والغربية.

(6)
ولكن هل كانت القياده المصرية تفكر حقاً وتساورها الآمال من وراء جهدها المضني لتجميع المتمردين المسلحين في ساوا الاريترية في ان مثل هذا العمل يمكن ان يؤدي الى اسقاط النظام في الخرطوم؟ لا اعتقد. القدر المتوفر من المعلومات يشير الى ان الفكرة لم تكن اسقاط النظام، وانما ضرب بعض منشآت الري الاستراتيجية وتحديدا سدّي ستيت والرصيرص، الامر الذي سيؤدي بطبيعة الحال الى منع السودان من استيفاء فوائض حصته المائية التي تبلغ تسعة ونصف مليار متر مكعب، والتي يفترض ان تبقى داخل الحدود السودانية عند اكتمال سد النهضة لتروية أربعة مليون فدان اضافية.

ولكن أحبابنا في الاستخبارات العسكرية المصرية الذين يديرون الشأن السوداني باتوا ليلهم ذاك وهم على ادراك كامل بقيمة الحكمة القديمة التي وردت على لسان الشاعر (دخول المرء في الشبكات هيّن/ ولكن التفكّر في الخروج). إذ رأى القوم القوة المسلحة السودانية الضاربة وهي تحكم الحصار على دولة افورقي وتسد الحدود مع اريتريا وتغلقها بالضبة والمفتاح. ثم أخذت التقارير، غير السارة، تترى من موسكو تستفسر القاهرة وتبلغها بأن القيادة الروسية تطلب التوضيحات. وما لبث الحبيب أفورقي، يعيد النظر كرتين، ويتقهقر رويدا رويدا وقد رأى اثيوبيا تتهيأ للتعبئة، ثم ذكر موقعه بادمي الشهيرة. ورأى قبلها بنود جيش السودان تخفق في السهول وحشود حميدتي تترامى من امامه فعرف ان الله حق!

(7)
دولة الأمارات الشقيقة خارج حلقات التآمر التي أرادتها لها القاهرة. جاء الى الخرطوم بغير اعلان الشيخ منصور بن زايد وقضي تحت سمائها ليلتين مقمرتين. وضع خلالها النقاط فوق الحروف. وقال لولاة الأمر بلسان عربي مبين بأن دولته لا تقبل التآمر على السودان من حيث المبدأ وستقف يدا واحدة وقلبا واحدا مع السودان ترد عنه غوائل الغائلين. ثم أمر من غرفته في الخرطوم بسد اي نقص في احتياجات السودان من الوقود، ثم غادر راضيا مرضيا.

(8)
تسألني عن الموقف الآن؟ أقول لك، أعزك الله: عناصر من الاستخبارات العسكرية المصرية تجوب الآن أعالي النيل وتتوغل شمالا. ماذا تريد في اعالي النيل؟ لا علم لي. ولكن المثل يقول: يا خبر النهاردة بفلوس بكره يبقى ببلاش!

والحديث متصل فما زلنا في البدايات.

بقلم : مصطفى عبد العزيز البطل

المصدر : سودان تربيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.