المسكوت عنه في… العلاقات السودانية المصرية 4

السودان لدى النخبة المصرية ليس جزءاً من مصر بمعنى الكينونة الواحدة والهوية المتحدة، بل هو جزء مما تحوزه مصر لا جزء مما تكونه مصر.

أعجب ما في الأمر أن الواقع الجغرافي يجعل السودان صعيداً أعلى ومصر هي السفلى ، وإلا لما انحدر إليها النيل الذي هو سبب الحياة والبقاء في منحدر واديه في الشمال.

ورغم أن النيل يتدفق من الجنوب إلى الشمال، والحضارة تنصب من الجنوب إلى الشمال ، فإن العقيدة التى لا تتزحزح في مصر أنها أولى بالفخر بالحضارة من مصادرها، وأولى بالاستحواز على النيل من أقطار منابعه.

إذا ذكرت الأنهار لا بد من ذكر السدود، فالسدود والخزانات هي سبل ترويض الأنهار الجامحة لكي يسلس قيادها، فيستفاد من عطائها في المواسم المناسبة للحرث والزرع. وإقامة السدود على الأنهار عريق فى تاريخ البشرية، وتاريخ نهر النيل.

لا أحب أن يؤوّل أحد من الناس مراد هذه المقالات بأنه دعوة للقطيعة بين السودان ومصر، فهذا لم يكن المقصود، ولن يكون أبداً . ففي كل الأحوال مصر بلد جار، ولكل جار على جاره حقوق يجب أن تراعى رغم العقوق . كما أن الذي يصلنا بأهلنا في شمال الوادي أوثق وأحكم مما يباعد ويفرق . بيد أن العلاقات بين الشعوب لا تقوم على حسن النوايا فحسب، بل لا بد من أسس متينة يؤسس لها في واقع الأحوال ، لتتقوى الصلات والعلاقات، ولكن واقع الحال في علاقات البلدين يهيىء للقطيعة، ولا يمهد للتواصل الذي لا يمكن أن يتحقق وتتحقق فوائده إلا بالمعاملة الصادقة بين البلدين، وهذا ما ظل مفقوداً لعقود طويلة ألقت سوافيها غباراً كثيراً على المواقف والمشاعر بين مواطني البلدين.

النظرة الاستعلائية هي آفة العلاقة
زعمنا فيما جرى به القلم أن النظرة الاستعلائية التي ترمق بها النخبة المصرية السودان وأهله هي آفة العلاقة بين البلدين. فالسودان يأتي آخراً، ولا يمكن أن يأتي أولاً أبداً لدى كل مصري ، ولا بأس لو كان ذلك مقتصراً على المصريين أن يجعلوا مصر فى المقام الأول، فهي وطنهم ولا بأس، مهما ادعوا أن السودان جزء من مصرهم ، فإن كان السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر، فهو لا شك يشارك شمال الوادي مقعد الأولوية هذا ، ولكن ما يقال ليس هو التعبير الأصدق عن ما يُفهم ويتُصور، فالسودان لدى النخبة المصرية ليس جزءاً من مصر بمعنى الكينونة الواحدة والهوية المتحدة، بل هو جزء مما تحوزه مصر لا جزء مما تكونه مصر. وقد فصلنا في مقالنا السابق موقف النخبة المصرية من قضية حلايب، وكيف يكشف الموقف الرسمي المصري، وموقف النخبة السياسية المصرية تلكم النظرة الاستعلائية تجاه السودان . ووعدنا أننا سنجىء في هذا المقال إلى تفصيل الموقف المصري تجاه السدود والزراعة النيلية في السودان، وكيف يكشف هذا الموقف المضطرد النظرة الدونية التي لا ترى السودان في منظور أفقي، بل تراه رأسياً من أعلى إلى أسفل .

وأعجب ما في الأمر أن الواقع الجغرافي يجعل السودان صعيداً أعلى، ومصر هى السفلى ، وإلا لما انحدر إليها النيل الذي هو سبب الحياة والبقاء في منحدر واديه في الشمال. ورغم أن النيل يتدفق من الجنوب إلى الشمال، والحضارة تنصب من الجنوب إلى الشمال بشاهد الآثار المكنونة، فإن العقيدة التى لا تتزحزح في مصر أنها أولى بالفخر بالحضارة من مصادرها، وأولى بالاستحواز على النيل من أقطار منابعه ، وأنها يجب أن تأخذ منه حتى تكتفي، ثم يتاح للآخرين أن يأخذوا ما تفضلت به من فضل وهم شاكرون .وهذا بالضبط هو مضمون ما تسميه مصر اتفاقية 1929 التي لا تعدو أن تكون تفاهماً بين بريطانيا الاستعمارية وبين مصر الخاضعة لاحتلال بريطانيا هي الأخرى. وهو عطاء من لا يملك لمن لم يثبت له استحقاق في غياب سائر الفرقاء. وسوف نأتي لتفصيل ذلك بإذن الله.

السدود فى السودان والموقف المصري منها
إذا ذكرت الأنهار لا بد من ذكر السدود، فالسدود والخزانات هي سبل ترويض الأنهار الجامحة، لكي يسلس قيادها، فيستفاد من عطائها في المواسم المناسبة للحرث والزرع، وإقامة السدود على الأنهار عريق فى تاريخ البشرية وتاريخ نهر النيل . بيد أن تقانة تشييد السدود قد تطورت مع تطور سائر صناعات البناء والتشييد. ولا شك أن نهر النيل عرف أنواعاً من محاولات ردم مجراه بالصخور لتبطئة مساره حتى يستفاد من مائه الجاري في الري ، ثم أن التقانة ارتقت من مجرد الردم بالصخور إلى السدود، وتحويل المسار، وتخزين المياه في خزانات تصغر أو تكبر.
وقد كان خزان أسوان أول السدود بشكلها العصري على نهر النيل، وقد جرى تشييده في الفترة مابين 1898 و1902 . وكان بُني لتخزين مليار متر مكعب من الماء، وقد بني فوق صخور ما يعرف بالشلال الأول ، الذي كان وسائر ما يعرف بالشلالات في النيل محاولات سابقة لتبطئة تيار النيل الجارف . وقد تمت تعلية خزان أسوان القديم عدة مرات قبل استبداله بالسد العالي ، والذي هو أكبر السدود على النيل، ويحجز ما مقداره 184 مليار من الأمتار المكعبة من المياه. وأما في السودان فقد ترافقت فكرة إنشاء خزان لري سهل الجزيرة مع فكرة إنشاء خزان أسوان القديم، وكان صاحب فكرة الخزانين السير وليام جارستن مستشار وزارة الأشغال البريطاني في مصر . وربما كانت فكرة زراعة القطن في سهل الجزيرة واحدة من حوافز تشجيع فكرة استعادة السودان، فزراعة القطن لم تكن غريبة في السودان، فقد ذكر الرحالة بونسيه الذي زار سنار سنار 1699 م أنه وجد فيها تجارة رائجة في تصدير القطن إلى المدى الذي دفع سلطان سنار إلى التعاقد مع ملك الحبشة على إقامة نقطة له عند حدود الحبشة مع السودان لتحصيل العوائد على القطن المصدر للحبشة، واقتسامها مناصفة بين المملكتين ، كذلك فإن الرحالة بركهارت الذي زار شندي في سن 1814 م،كتب أن أهم صادرات سنار كان قماش الدمور المصنوع من القطن، وأن مغازل ونسيج سناركانت تمد بلداناً كثيرة في شمال أفريقيا بما تغزل وتنسج . فكانت فكرة تأسيس زراعة مروية للقطن في السودان لا تبرح يصرح بها في بريطانيا لتغذية مصانع النسيج بها بالقطن الجيد. ثم انتقلت الفكرة إلى حيز التحضيرات عندما أعد اللورد كرومر قنصل بريطانيا العام تقريراً في العام 1904 أيد فيه فكرة ري أراضي الجزيرة واستغلالها في زراعة القطن . وكانت بريطانيا واصلت زراعة القطن في طوكر، وفي بعض أجزاء ولاية نهر النيل الحالية في الزيداب، وكانت زراعته بها بدأت على عهد الحكم التركي، ثم بدأت حكومة السودان تنقل الفكرة إلى حيز التنفيذ العملي عندما شرعت بعمل مسح جيولوجي لأراض سهل الجزيرة، ثم قامت في عام 1909 م ببناء خط للسكة الحديد من سنار إلى الخرطوم، تبعه بناء خط آخر من سنار إلى كوستي على ضفة النيل الأبيض الغربية ، ومنها نحو مدينة الأبيض في كردفان. وفي أثناء ذلك بدأت الحكومة بإجراء تجارب زراعة القطن، فأقامت في عام 1911 محطة طلمبات، وحفرت قنوات للري تأخذ المياه من محطة الطلمبات لريّ ثلاثة آلاف فدان، تم التوسع فيها لاحقاً لتصل إلى خمسة آلاف فدان. كانت هذه المشروعات تزعج الحكومة المصرية التي خشيت من توسع بريطانيا في زراعة القطن في السودان لتموين مصانع لانكشير بالقطن السوداني الذي عرف بجودته . وكان سبب الانزعاج المصري أن توسع زراعة القطن في السودان سوف يشكل مهدداً ومنافساً خطيراً لزراعته في مصر ، وكذلك فإن زراعته بالري من مياه النيل سوف يشجع للتوسع في استخدام مياه النيل التي تريدها مصر احتياطياً لنهضتها الزراعية، ولا تريد أن يتوسع في السودان استعمال كبير لمياه النيل يصبح بمرور الوقت حقاً مكتسباً في الري من النيل. وقد قررت حكومة السودان (أي حكومة الاستعمار الثنائي) تشييد السد، وطلبت من الحكومىة المصرية ضمان القرض الخاص بذلك وقدره 33 مليون جنيهاً مصرياً، فرفضت الحكومة المصرية ليس فكرة التمويل فحسب، بل فكرة إنشاء السد نفسها، مما اضطر الحكومة إلى عقد اتفاقية مع الحكومة المصرية مشروطة بشروط عديدة من بينها إقامة سد مملوك لمصر في السودان تنفرد بإدارته، والسيادة على موقعه وشؤونه الإدارية، وهو سد جبل أولياء الذي سوف نتطرق إليه وإلى شروط إنشائه فيما يلي من استعراض للتاريخ .

وعلى الرغم من اتفاقيتها مع حكومة السودان، رفضت الحكومة المصرية ضمان قرض خزان سنار، فاتجهت الحكومة إلى بريطانيا الشريك الأول في حكم السودان لضمان القرض من الحكومة البريطانية التي وافقت على ضمان القرض، فهي المستفيد الأول من التوسع في زراعة القطن في السودان، وصادق البرلمان على ضمانه . بيد أن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون البدء في تشييد السد، واستأنفت التحضيرات للبناء بعد انتهاء الحرب، وبدأ البناء لينتهي في العام 1925 ، ويفتتح السد في العام 1926م، مفتتحاً بذلك صفحة اضطلع فيها ما سمي بمشروع الجزيرة بدور مهم في اقتصاد السودان. وقد أخذ المشروع اسمه لأنه أريد له التوسع المستمر في المناقل في المرحلة الثانية، وفي منطقتي الرهد وكنانة في مرحلة تليها، وكان حرص حكومات السودان على التوسع في المشروع يصادف مقاومة هائلة من الجانب المصري، ومع تغير الحكومات هنا وهناك لم يتغير الموقف المصري ولم يتبدل تبديلاً.

الخزان المصري في تراب السودان
وأما خزان جبل أولياء فقد إكتمل انشاؤه في عام 1937م، وظل تحت الإشراف الفني والإداري للحكومة المصرية التي قامت ببنائه في السودان وفق اتفاقية بقبول قيام خزان سنار حتى تحفظ حقها في مياه النيل كما تقول دون أي تدخل من حكومة الحكم الثنائي أو الحكومات الوطنية بعد استقلال السودان ، وظل الخزان يمثل خط إمداد ثاني للمياه في مصر ، إلى أن زالت أهميته لمصر بعد قيام السد العالي، وتم تسليمه إلى حكومة السودان في عام 1977 م، ليُستفاد منه في رفع منسوب المياه في المناطق أمام جسم السد وخلفه حتى يمكن ري مشاريع النيل الأبيض الزراعية . وقد شملت شروط اتفاقية قبول سد سنار إلى جانب إنشاء سد جبل أولياء شروطاً شملت وضع قيود زمانية لاستخدام السودان لمياه النيل تمنعه من استخدام مياه النيل في الري بصورة مكثفة بين شهري يناير ويوليو، وجرى تضمين هذه الشروط في تفاهم 1929 بين حكومة السودان الاستعمارية وحكومة مصر. وتم الاستحواز على أراضي الأهالي الزراعية لإقامة الخزان، ولم يتلقوا إلا تعويضاً بائساً لم يتجاوز مبلغ سبعمائة وخمسين ألف جنيه إسترليني دفعتها بريطانيا لتسهيل إقامة الخزان المصري في الأراضي السودانية المأخوذة قسراً من أصحابها. وقد سمحت حكومة الاستعمار الثنائي للحكومة المصرية بإقامة محطات للري للمصري في أنحاء متعددة من السودان، فصارت تلكم المحطات أشبه بمناطق منزوعة السيادة، وذلك كله ليشكل ضمانات على أولوية الحق المصري في مياه النيل. وظلت مصر الرسمية تتحسس من أيّ مشروع زراعي ذي جدية ينشأ أو يُفكر في إنشائه ليُسقى من مياه النيل. وأما خزان جبل أولياء الذي التزمت مصر في اتفاقية 1959 بتسليمه للسودان مباشرة بعد انتهاء بناء السد العالي، والذي جرى افتتاحه في العام 1971 فلم يسلم لحكومة السودان إلا في العام 1977 وأصبح التصرف فيه معضلة لأن الناتج الكهربائى منه لا يبرر الإبقاء عليه، على الرغم من أنه يساعد فى توفير مخزونات المياه لدعم التوليد في خزان مروي، ولكن هذا الدور سوف يتقلص بعد اكتمال بناء سد النهضة الأثيوبي، ويبقى أن التبخر في بحيرة السد يسبب خسارة في المياه يقدرها البعض بملياري متر مكعب، فإن كان ذلك كذلك فإن فكرة إزالة السد لتوسيع الأراضي الزراعية في منطقة بحيرته لا تبدو فكرة شاطحة، فهو في كل الأحوال بناء لم يشيد إلا لمصلحة بعض الجيران .

خزان خشم القربة التعويضي
السد الوحيد الذي لم تعترض على إنشائه الحكومة المصرية هو خزان خشم القربة الذي أنشىء لري المشروعات الزراعية للمهجرين من النوبيين، وهو من أصغر السدود، على واحد من فروع النيل هو نهر عطبرة . وقد صمم لتخزين مليار متر مكعب فقط ، وما لبث أن تناقصت قدرته على التخزين بتراكم الطمي في بحيرته، ما أفشل غالب مشروعات المهجرين الزراعية. ولربما يسأل السائل: لماذا جعلت قدرة التخزين محدودة إلى هذا القدر التي تساوي قدرة خزان أسوان القديم في العام 1898. والراجح عندي أن السبب هو الاعتراض المصري على توسيع قدرة الخزان ، رغم العلم بمشكلة الإطماء ، ورغم أنه أنشىء لتعويض المهجرين بسبب قيام السد العالي . فمصر الرسمية لم تكتف بعدم تعويض المهجرين التعويض الكافي، بل لاحقت سبل كسب عيشهم فى مهجرهم الجديد . وللتعويضات قصة أخرى أسهب في تفصيلها الكاتب والإداري حسن دفع الله الذي أشرف على تهجير أهل حلفا إلى حلفا الجديدة بصفته ضابطاً إدارياً في حلفا. وقد طالب السودان بتعويض قدره خمسة وثلاثين مليون جنيه مصري لإكمال الترحيل والبناء والتعويض على المغروسات والمزروعات، وتمسكت مصر بدفع مبلغ عشرة ملايين جنيه مصري زادها عبد الناصر تفضلاً إلى (خمسة عشرة مليون)، بينما بلغت تكاليف التهجير والبناء وتوفير سبل كسب العيش ما يقارب الأربعين مليون جنيه مصرياً دفعها دافع الضرائب السوداني بلا كلمة شكر واحدة ممن استفاد ولم يمنح السودان كيلو وات واحد من الكهرباء التي ولدها السد العالي، بل أن مصر الرسمية التي استدعت العالم كله لإنقاذ آثار النوبة في مصر، لم تفعل شيئاً يذكر لإنقاذ آثار النوبة في السودان.

خزان الروصيرص يدخل موسوعة جينيس
ذكرنا أن الإدارة البريطانية لرغبتها في التوسع في زراعة القطن رغبت في توسيع مشروع الجزيرة ليشمل منطقة المناقل ومنطقتي كنانة والرهد في مرحلة لاحقة . ولذلك فقد بدأ التفكير جدياً رغم المعارضة المصرية التفكير في بناء خزان في منطقة شمال الدمازين في الروصيرص يبدأ بسعة تخزينية مليار متر مكعب، وكان هذا في العام 1952، والفكرة إحياء لاقتراح سير وليام جارستن صاحب فكرة خزان سنار بأن يقام خزان آخر في هذه المنطقة من النيل الأزرق. وعهد لشركة فرنسية بوضع الخطة فصممت خزاناً ينفذ على مرحلتين، المرحلة الأولى بقدرة تخزين ثلاثة مليار متر مكعب، والثانية بقدرة تخزين سبعة ونصف مليار متر مكعب، ورؤي أن المرحلة الأولى ستمكن من توسيع مشروع الجزيرة إلى المناقل، بينما تتيح المرحلة الثانية توسيعه إلى مناطق كنانة والرهد. كما جرى تصميم السد ليولد كهرباء هيدرولكية رخيصة التكلفة لإمداد الشبكة القومية بالكهرباء. كان الخزان مشروعاً يشكل قاعدة مهمة لقطاعي الزراعة والطاقة، والتي تفتح فرصاً لتطور الصناعة في السودان، بيد أن مصر الرسمية لم يكن في ما تحسب مصالح السودان، لا سيما تلكم التي ترى أنها تتعارض مع مصلحتها في توفير مياه النيل لصالح أهل شمال الوادي . كانت المعارضة المصرية طوال العهود لبناء سد الروصيرص معارضة هائلة جيشت لها كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والاستخبارية للحؤول دون قيام السد، أولاً، ثم للحؤول دون تعليته فى المرحلة التالية.

ودخل موضوع سد الروصيرص مفاوضات قسمة مياه النيل بين البلدين، وصار البند الأهم من بنود تلكم المفاوضات، ولسنا في حاجة للاستطراد في شرح كم كانت تلكم المفاوضات طويلة وشاقة، فقد كفانا الدكتور سلمان محمد سلمان ذلك، فيما استفاض في شرحه في سلسلة مقالات كتبها عن خفايا تلكم المفاوضات، ولكن ما يناسب حديثنا ههنا أن حرص حكومة السودان على عهد الحكم الثنائي، ثم الحكومات الوطنية، كان منصباً على توسيع المساحة المروية من مشروع الجزيرة للتوسع في زراعة القطن فيه ، وكانت بريطانيا وهي تغادر تريد ضمان وصل الاقتصاد السوداني بالبريطاني وصلاً لا فكاك له بالتوسع في زراعة القطن، وكان هدف الحكومات الوطنية من بعد هو التوسع في زراعة القطن، ثم حلجه وغزله ونسجه، كما كان يحصل في السودان حتى قبل قدوم محمد علي باشا مستعمراً للسودان. وكان إنشاء خزان الروصيرص هو السبيل إلى تحقيق ذلك، ولكن مصر لم تقبل بقيام المرحلة الأولى إلا بعد أن صار قيام الخزان جزءاً من اتفاقية 1959 لاقتسام مياه النيل، والتي جاءت اعتماداً على الحقوق المكتسبة، أي تقسم الموارد المائية بناءً على الاستخدام الفعلي، وحتى تلكم التي لم تستخدم تقسم تناسبياً مع ما سمي بالحقوق المكتسبة، فالذي أخذ من قبل يأخذ أكثر، والذي لم يأخذ يأخذ أقل، ومهما يبدو من إجحاف في هذه المعادلة، فإن حكومة السودان رأت أن الأمر العاجل هو الحصول على الموافقة المصرية على قيام الخزان بمرحلتيه، ورغم حدوث الموافقة واكتمال بناء المرحلة الأولى فى العام 1966، إلا أن مصر اجتهدت في منع حصول السودان على تمويل من البنك الدولي أو أيّ ممول آخر لكي لا يتمكن السودان من تحقيق المرحلة الثانية التي هى تعلية الخزان، ولم تحقق المرحلة الثانية في بناء السد إلا بعد سبعة وأربعين عاماً من انتهاء مرحلته الأولى، ليدخل موسوعة جينيس لأطول مدة بناء سد من السدود، وهذا الدخول لموسوعة جينيس إنما يعزى الفضل فيه لجارتنا العزيزة في شمال الوادي. وقد يسأل سائل: لماذا لم نتحدث عن خزان مروي؟ والإجابة أولاً: إن ما بذلته مصر لتعويق بناء التعلية هو ما فعلته لتعويق بناء سد مروي، وما تبذله لمنع بناء السدود الأخرى المخطط قيامها على الشلالات بدءاً من السبلوقة إلى دال وكجبار، و سوف نتطرق إلى ذلك في الحديث عن الموقف المصري من الزراعة المروية بمياه النيل.
نواصل في حلقة قادمة:
مصر الرسمية وعقدة الزراعة في السودان.
د.أمين حسن عمر
المصدر:جريدة الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.