رسموا صورة رائعة عن السودان هناك السودانيون بالسعودية.. تخفيض الأجور يرفع احتمالات العودة للوطن

“القرارات الاقتصادية الأخيرة لحكومة المملكة جعلتنا نفكر كثيراً في العودة إلى الوطن”، هكذا ابتدر المغترب السوداني بجدة ثاني مدن المملكة العربية السعودية، من حيث الأهمية الاقتصادية، حديثه معي ونحن نرتشف “الجبنة” في قهوة سودانية يباع فيها حتى “التمباك” بسوق باب شريف الشهير بالمدينة الساحلية.

وقال عثمان الذي تنحدر أصوله من محلية الحصاحيصا بولاية الجزيرة إن اوضاعهم برغم ارتفاع قيمة الريال السعودي بأرض النيلين ووصوله حاجز الأربعة جنيهات وثمانمائة قرش، لم تعد مغرية بداعي خفض الأجور الشهرية، علاوة على تراجع فرص العمل ذات العائد المادي المجزي.

وكشف عن أنه مثل غيره وبعد اغتراب دام عشرين عاماً بأرض الحرمين، لم يجد أمامه غير إرجاع أسرته إلى السودان بداعي المتغيرات التي طالت أوضاع الوافدين بالسعودية.

الأوضاع تتغير

وأنا أجلس بمعية عدد من المغتربين السودانيين بسوق بني مالك بجدة ساورتني شكوك بأن المكان الذي اتخذناه متكأ ليس في السعودية، بل بأحد مدن السودان، فكل تفاصيل هذه السوق تؤكد أن الوافدين القادمين من وراء البحر الأحمر ومن أرض النيلين تحديداً وجودهم ضارب في القدم بالمدينة الساحلية، فنحن نجلس في مطعم يقدم الوجبات السودانية، وأمامنا صالون حلاقة لشباب سودانيين وبالقرب منهم قهوة يديرها قادم من وسط السودان، لذا فإن تلك الجلسة جاءت بنكهة سودانية كاملة الدسم، رغم أن الأحاديث مازجت بين الحنين لديار الأجداد والخوف من قادم مجهول بأرض الحرمين، فجمال القادم من الولاية الشمالية بدا متخوفًا من مستقبلهم بالمملكة السعودية، وقال إنه ظل موجوداً منذ سبعة عشر عاماً ولم تمر به مثل الظروف الحالية، موضحاً أنه فقد عمله الأساسي وانتقل إلى وظيفة عمالية لا يتجاوز عائدها الشهري الستة آلاف جنيه سوداني، علمًا بأنه كان يتقاضى قبل الاستغناء عنه من قبل شركة كبرى ما يعادل العشرين ألف جنيه، مؤكدًا أن الأوضاع في المملكة لم تعد كما كانت وأنها وضعت الكثير من الوافدين خاصة السودانيين في مهب الريح .

رسوم وضرائب

أما اسعد وهو رجل أربعيني يعمل سائقاً متنقلاً بالمملكة لصالح شركة نقل، فقد بدأ حديثه ضاحكًا حينما أشار إلى أنه هرب من السودان بداعي الرسوم والضرائب الباهظة، إلا أنها أطلت بوجهها في المملكة، ويلفت إلى أن كل المغتربين يتخوفون من الرسوم التي تم تحديدها على الوافد وكل فرد في أسرته والتي يتوقع أن يتم تطبيقها منتصف هذا العام، وأشار الى أنها ومع تراجع الأجور الشهرية بالقطاع الخاص الذي يعمل فيه معظم السودانيين، فإن الكثير من الأسر لن تجد أمامها غير العودة إلى السودان، وقال ضاحكاً: الحمد لله أنني عدلت عن فكرة إحضار أسرتي، لأن تكاليف الحياة هنا باتت مرهقة ومكلفة، وأعرف الكثير من السودانيين شرعوا في إرجاع أسرهم، إلا أن “جقلبة النسوان” تحول بينهم وإكمال هذه الخطوة، فصديقي الذي يعمل معي محاسباً بالشركة تم خفض راتبة إلى ثلاثة آلاف ريال، فطرح على زوجته العودة إلى السودان تقليلاً للإنفاق إلا أنها رفضت واستعصمت بوجهة نظرها، وبصفة عامة توجد زوجات وافقن على العودة، فيما ترفض أخريات حمل حقائبهن والتوجه نحو السودان.

قرارات

بخلاف قانون السعودية الذي أخرج هذا العام الوافدين العاملين في قطاع الهواتف السيارة، فإن المملكة العربية تمضي في اتجاه تسكين المواطنين السعوديين في وظائف العديد من القطاعات بدلاً من الوافدين، فيما قررت أيضا، وفي سبيل إحداث تغييرات اقتصادية عقب تراجع أسعار النفط عالميًا فرض رسوم على الوافدين والتي وجدنا في مكة والمدينة وجدة أنها مثار اهتمام كل الوافدين السودانيين، حيث تقرر أن تبدأ في منتصف هذا العام العام، وترتفع تدريجياً وصولاً إلى العام 2020، والرسوم الشهرية تبلغ في العام 2018 مائتي ريال على الفرد الواحد بـأسرة الوافد، ثم ترتفع لتصبح 300 ريال في العام 2019 وصولاً إلى أربعمائة ريال في العام 2020، ورغم تأكيد سودانيين بأن المبلغ تم تخفيضه، إلا أن الرسوم التي فرضتها المملكة ستتحول إلى واقع بحلول العام القادم ما يعني مزيداً من المعاناة على كاهل الوافد، وتهدف الرياض من هذه الخطوة إلى تنويع مصادر الدخل، ودعم القطاعات الاقتصادية التي تتواجد فيها أعداد قليلة من العمالة السعودية، مقارنة بأعداد العمالة الوافدة.

أرقام ضخمة

بالعودة إلى تلك الجلسة مقرونة بما خرجنا به من لقاء آخر بسودانيين بسوق باب شريف، فإن الآراء تبدو متطابقة والمخاوف عنوان بارز وعامل مشترك، ويؤكد محمد القادم من نهر النيل أن الكثير من الشركات السعودية استغنت عن أعداد كبيرة من عمالتها الوافدة نسبة للظروف الاقتصادية التي تمر بها، وأن هذا وضع عدداً كبيراً من السودانيين في مهب الريح، وفرض عليهم العمل في وظائف بمخصصات أقل كثيراً عن تلك التي كانوا يتقاضونها، أما عثمان من ولاية القضارف، فقد كشف عن ارتفاع عدد السودانيين بالمملكة، ورأى أن هذا الواقع فرضته الظروف المتردية بالبلاد، ويضرب المثل بنفسه قائلاً: أنا خريج كلية الاقتصاد بجامعة حكومية محترمة بالسودان، ظللت لخمس سنوات أبحث عن وظيفة بالخرطوم، فلم أجد، ولم يكن أمامي غير الحضور إلى السعودية والعمل سائقاً لأسرة نظير ثمانية آلاف جنيه سوداني، ورغم أن هذا المبلغ مقارنة بالأجور في السودان يعتبر جيدًا إلا أن المنصرف في السعودية يختلف كلياً عن السودان لحدوث ارتفاع في تكلفة الحياة خاصة السكن والترحيل والعلاج، ويعتقد أن السعودية لم تعد جاذبة ومغرية مثلما كانت في الماضي.

السودانيون يتقدمون

في مدن مكة، المدينة وجدة، فإن أعداد السودانيين تبدو كثيرة بصورة واضحة خاصة في العاصمة السعودية الثانية، ورغم ذلك فإن السودانيين يأتون في المركز التاسع بين الوافدين في المملكة، والذين تتراوح أعدادهم بين التسعة والعشرة ملايين أجنبي، وتوضح دراسات سعودية رسمية أن حوالي ٨ جنسيات محددة تشكل حوالي ٨٥٪ من إجمالي عدد المقيمين في المملكة، وجاءت الجنسية الهندية في المركز الأول بنسبة ١٩.٤٪، ثم الباكستانية بنسبة ١٤.٥٪ ثم البنجلاديشية بنسبة ١٤.٤٪، فالمصرية ١٤.٣٪، ثم الفلبينية ١١.٣٪، وهذه الجنسيات الخمس تشكل النسبة الأكبر من المقيمين في المملكة، وبعد هذه الجنسيات الخمس تأتي اليمنية بنسبة ٥.٠٧٪ ثم الإندونيسية بنسبة ٤.١٩٪، ثم السودانية ٢.٥٪ ثم بقية الجنسيات الأخرى مثل السورية والسيرلانكية والفلسطينية والتركية والأردنية وغيرها.

الكفلاء وأزمة أخرى

عندما التقيت بعمر وهو من كوستي وجدته قادماً لتوه من مركز احتجاز حكومي بمدينة جدة يطلق عليه اسم “الحوش”، وهو مكان مخصص لتوقيف الوافدين الذين لم يجددوا إقامتهم والتي تبلغ فترتها خمس سنوات ويجب أن تجدد سنوياً، ومن يخالف هذا الإجراء لا يتم إبعاده، ولكن عليه دفع غرامة تتراوح بين الألف والثلاثة آلاف ريال، كما أفادني البعض، وهذا ما فسّر لي سر استياء عمر الذي قال إنه لم يجد أمامه غير دفع الغرامة التي فرضت عليه لعجزه عن التجديد السنوي لإقامته، وأرجع السبب إلى أن الشركة التي كان يعمل بها والتي تكفله قد توقفت عن العمل، ولم تعد تهتم بتجديد إقامات منسوبيها من الوافدين، كاشفاً أن الكثير من السودانيين يعانون أشد المعاناة من الكفلاء وأن بعضهم لم يجد غير اللجوء إلى المحاكم لاسترداد حقوقه، مبيناً فرض كفلاء مبالغ باهظة عند حلول موعد تجديد الإقامة وأن على الوافد أن يسددها حتى يوافق الكفيل على تجديدها، ورأى أن في هذا ظلماً كبيراً جعل كثيراً من المهاجرين السودانيين يتحاشون الظهور في المدن الكبرى حتى لا يتم إلقاء القبض عليهم وتغريمهم مبالغ طائلة بسبب عدم تجديد إقامتهم سنوياً، وبعد الخمس سنوات، وقال إن الكثيرين يعجزون عن التحرك لهذا السبب، معتبرًا أن السعودية ورغم أنها قدمت الكثير للسودانيين الوافدين، إلا أنها لم تعد جاذبة لأصحاب المهن الحرة، ورأى أن الذين يتم التعاقد معهم عبر الجهات الحكومية السعودية في التعليم والصحة ما تزال أوضاعهم جيدة.

تفسير وتوضيح

وفي تفسير وتوضيح لأسباب المعاناة الاقتصادية وصعوبات الحياة التي يواجهها الوافدون عامة والسودانيون خاصة بالسعودية، فإن السر يكمن وراء القرارات التي اتخذتها الحكومة السعودية المتمثلة في برنامج التحوّل الوطني، حيث قررت بخلاف فرض رسوم على الوافدين تخفيض نسبة الأجور والرواتب من الميزانية العامة للدولة من 45% (480 مليار ريال) إلى 40% (456 مليار ريال) في 2020، وذكرت وزارة المالية السعودية أن لديها ثلاثة أهداف استراتيجية، وهي تعزيز حوكمة المالية العامة، والهدف الثاني تنمية الإيرادات غير النفطية، وأشارت إلى أنها تهدف إلى رفع حجم مساهمة الإيرادات غير النفطية من 163.5 مليار ريال حالياً، إلى 530 مليار ريال، والهدف الثالث رفع كفاءة الإنفاق على الرواتب والأجور، وأخيراً فإن وزارة العمل قد نفذت قرار “سعودة” قطاع بيع وصيانة الهواتف المحمولة، بحيث يشغل السعوديون نسبة 100% من الوظائف في هذا القطاع خلال 6 أشهر، أي بحلول سبتمبر القادم، وهذا يعني فقدان أعداد كبيرة من الأجانب ومنهم سودانيين بطبيعة الحال فرص عملهم في هذا القطاع، ويواجه العمال الأجانب بعد هذا القرار مخاطر فقدان وظائفهم والعودة لبلدانهم، في ظل الضغوط التي أحدثها هبوط أسعار النفط على الاقتصاد وتوجه الحكومة لتوفير المزيد من الوظائف للمواطنين في القطاع الخاص، وبحسب بيانات البنك المركزي السعودي، بلغت تحويلات الأجانب إلى ذويهم خارج المملكة 9.1 مليار دولار في الربع الثالث من العام الماضي، ودفع تدني أسعار النفط الحكومة السعودية إلى تقليص مشروعاتها، وهذا انسحب سلباً على عدد كبير من الشركات التي لم تجد أمامها غير تسريح عدد كبير من عمالتها الوافدة حتى تتمكن من تحقيق أرباح.

“أدونا فرصة معاكم”

حازم الذي التقيته بفندق أودسا بوسط جدة محل إقامتي، قال لي مازحاً: “منذ الآن جهزوا لينا وظائف وادونا فرصة معاكم”، وأكمل حديثه مؤكداً أن الأوضاع الاقتصادية في السعودية شهدت متغيرات اعتبرها حازم الذي يعمل محاسبًا في شركة خاصة أمراً طبيعياً في ظل التقلبات التي اعترت الاقتصاد العالمي عقب انخفاض أسعار النفط الذي تعتمد عليه المملكة بوصفه موردًا أساسيًا، ويلفت إلى أن السودانيين المقيمين في السعودية ولأول مرة يفكر الكثير منهم بصورة جادة في المستقبل ودراسة العودة إلى البلاد، ويؤكد على أن السعودة وفرض رسوم بالإضافة إلى مشاكل الكفلاء وارتفاع مستوى المعيشة ـأسباب قد تجبر الكثيرين على حزم حقائبهم والعودة إلى الوطن.
الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.