عندما تلعب الحكومة بالنار

عجبتْني مقدمة ساقها الأخ خالد التجاني في مقال رائع استشهد فيه بمقولة مؤسس سنغافورة وقائد نهضتها الأسطورية (لي كي وان) حين تحدّث عن القدوة في مكافحة الفساد فقال:- (إن تنظيف السلم يبدأ من أعلى)، وضرب خالد التجاني مثلاً حياً لتطبيق فعلي لتلك المقولة بجارتنا أثيوبيا التي تشهد طفرة تنموية هائلة بالرغم من أن الملايين من سكانها يعملون في مهن هامشية داخل بيوتنا ومؤسساتنا ومكاتبنا، فقد ساقت إثيوبيا زعيمها الثائر تامرات لايني أول رئيس لوزرائها في عهدها الجديد إلى القضاء عام 1996 بتهم فساد حكم عليه بموجبها بالسجن 18 عاماً، ولم يشفع له نضاله وقتاله الطويل ضد نظام الحاكم السابق منقستو هيلي مريام، وحكى وزير الصناعة الأثيوبي لوفد سوداني منذ نحو عام أنه ينتظر منذ زمن دوره للحصول على شقة في مساكن حكومية وليس على فيلا أو قصر متعدد الطوابق!

أقول هذا بين يدي الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلادنا والتي لا أشك أن جزءاً كبيراً منها ناشئ عن الفساد المستشري والذي فشلنا في كبح جماحه ناهيك عن بتره واستئصاله.

رغم تراجع وزير المالية عن تصريحه الصادم حول رفع الدعم عن بعض السلع الرئيسية أجدني مضطراً لأن أبدي استغرابي لصدوره والذي أثار عاصفة هوجاء من ردود الأفعال الغاضبة، وعجبتُ أن يلعب الرجل بالنار ويتحدث عن رفع الدعم عن المحروقات التي أشعل قرار سابق حولها ثورة في شوارع الخرطوم في سبتمبر 2013 راح ضحيتها العشرات من الضحايا الذين لم يُعثر حتى الآن – ويا للعجب – على أي من قاتليهم، بل إن الوزير تحدث عن رفع الدعم عن القمح والكهرباء التي تشهد قطوعات مبرمجة في عز شتاء هذه الأيام، فكيف سيكون الحال في يونيو القادم بصيفه الحارق الذي يتوعدنا وزير المالية بأنه سيشهد مع قطوعات الكهرباء والمياه زيادة في الأسعار التي نراها هذه الأيام تتضخم يومياً حتى قبل أن يرفع الدعم مع تصاعد مجنون للدولار ينذر بخطر داهم وشر مستطير لا أحد يعلم مآلاته على الأوضاع في وطننا المأزوم ؟!

ذات الفساد الذي قعد بدول أفريقية ذات موارد بترولية هائلة – نيجيريا مثلاً – هو الذي تسبب استئصاله في صعود وتطور دول أخرى وظَّفت مواردها المحدودة توظيفاً جيداً في مناخ سياسي مواتٍ ونظام فاعل للحكم الراشد.

لماذا يا ترى نعجز عن إنفاذ السياسات التي تقررها الدولة في أعلى مستوياتها، وهل نحتاج إلى أن نؤكد أن أكبر مظاهر الفساد تتجلى في عجز الدولة عن مكافحته وطغيان سلطان مراكز القوى على القرار السياسي أيا كان مصدره؟

لماذا تعجز الدولة مثلاً عن إنفاذ شعار ولاية وزارة المالية على المال العام وتبحث عن الموارد السهلة التي ترهق كاهل المواطن المثقل أصلاً بجبال من الأعباء في تجاهل تام لما تنطوي عليه من فواتير سياسية باهظة الثمن؟! ولماذا تسود سطوة بعض الجهات على القانون بل على الدستور، ومن أين تستمد تلك الجهات سلطتها وقوتها القاهرة التي لا سلطان لأحد عليها؟!

المراجع العام التابع للدولة وليس للمعارضة أكد في تقريره أن التوجيه الرئاسي وقرار مجلس الوزراء رقم (126) للعام 2011 حول خصخصة وتصفية 27 شركة تتبع للقوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن لم يُنفَّذ حتى هذه اللحظة!

هذه الشركات المحمية ومئات غيرها تعتبر من البدائل الجيدة لحل الأزمة المالية والاقتصادية في موازنة الدولة، لكن المشكلة تكمن في أن وزير المالية لا يستطيع أن يخضع تلك الشركات لسلطانه إنما يختار البدائل السهلة مثل الوزارات (المسيكينة) التي لا أسنان لها ولا أضراس كما يختار المواطن (الغلبان) كذلك والذي لا حول له ولا قوة غير أن يقول (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وفوق ذلك فإنه بدلاً من أن يكتفي بالتضييق على المواطن المسكين بقرارات رفع الدعم أو أن يشكره على صبره الجميل يتهمه بأنه مستهلك وغير منتج! (بالله عليكم شفتوا تطبيق حي للمثل الشعبي الساخر (عينو في الفيل يطعن في ضلو) أفضل من هذا؟!

البدائل كثيرة يا بدر الدين أخوي وأنت تعلمها ومنها كما أسلفت شركات القطاع العام التي أطلق عليها رئيس الجمهورية اسم (شركات النهب المصلّح) والتي ظلت تتزايد كالفطر بالرغم من وجود لجنة متخصصة للتصرف في مرافق القطاع العام، ولكن أي قطاع عام ذلك الذي يخضع لسلطان تلك اللجنة عديمة الحيلة؟!

قبل أن أستطرد في ذكر البدائل أود أن أسأل الحكومة ووزير ماليتها هل تستطيع تحمّل الفاتورة السياسية الباهظة لرفع الدعم عن السلع الأساسية والذي جربت نتائجه الكارثية في سبتمبر 2013 أم إن هناك بدائل أخرى لا تحتاج إلى أكثر من إرادة سياسية فاعلة وصارمة؟

صحيفة الصيحة

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.