التناقض الأمريكي.. رفعت واشنطون عقوباتها الاقتصادية .. ثم أطلقت تحذيرا لرعاياها من السفر إلى السودان لوجود جماعات إرهابية، فما هي الرسائل؟

فقط هي السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية التي تحتمل الشيء وضده في الوقت عينه، لم يمض أسبوعان على قرار الرئيس دونالد ترامب برفع الحظر الاقتصادي على السودان الذي استمر لعشرين عاما، حتى أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً تحذيرياً لرعاياها المتجهين للسودان وذكر البيان وجود جماعات إرهابية، وكانت أبرز الحيثيات التي بموجبها جاء قرار رفع الحظر عن السودان التقدم المعترف به في مكافحة الإرهاب ولكن بيان الخارجية الذي حمل تحذير السفر أشار إلى وجود جماعات إرهابية في السودان تهدف إلى إلحاق الأذى بالغربيين والمصالح الغربية من خلال العمليات الانتحارية والتفجيرات وإطلاق النار والاختطاف، كل هذا متوقع في السودان ويثير المخاوف لدرجة التحذير من السفر والخارجية الأمريكية نفسها على لسان مسؤول كبير قال في تبريره لقرار رفع العقوبات أن السودان تعاون في مواجهة المسلحين بالداخل، وفي جميع أنحاء شمال أفريقيا، من خلال المساعدة في وقف محاولات الإرهابيين عبور البلاد.
فكيف يمكن قراءة تعاون السودان في مجال مكافحة الإرهاب ما يستوجب الجائزة الكبرى وهي رفع العقوبات الاقتصادية والحديث في الوقت نفسه عن المخاوف من عمليات إرهابية بالسودان، ثم ما حجم المصالح الغربية المستهدفة في السودان والعقوبات الاقتصادية على مدى عقدين من الزمان أفرغت السودان من كافة المصالح التجارية الغربية وقللت من حجم البعثات الدبلوماسية والتعقيدات الاقتصادية الناتجة عن استمرار العقوبات أدت إلى خروج الكثير من شركات الطيران العالمية عن العمل بالسودان وتراجع السياح الأجانب بشكل كبير لأسباب اقتصادية وللدعاية السياسية المناهضة للسودان في الغرب التي نجحت في تخويف الغربيين من السفر إلى السودان، وبالتالي لا توجد مصالح غربية كبيرة تستحق من الجماعات الإرهابية تكبد مشقة السفر إلى السودان لتفجيرها بينما يمكنها أن تفجر قلب لندن أو باريس أو بروكسل، ومعلوم أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) البعبع الذي يرهب الغرب والعالم بأسره يتعرض لضربات في معقله في الرقة السورية والموصل العراقية وفي مثل هذه الحالات يتوقع الخبراء أن يقوم بتفجيرات في العواصم الأوروبية من أجل أن يقول نحن هنا، ولكن السودان مستبعد تماما من ذلك، فما هي الرسائل التي تريد واشنطن إيصالها إلى الخرطوم من خلال هذا التحذير؟، هل تريد تذكير الخرطوم بأنها في غمرة التفاؤل بانفراج في علاقاتها مع الغرب بعد رفع الحظر الاقتصادي يجب أن لا تنسى أنها لا تزال في قائمة الدول الراعية للإرهاب التي وضعتها الولايات المتحدة؟ وتبعث برسالة إلى الغرب الذي أبدى الرغبة في استئناف العلاقات السياسية الطبيعية والتعاملات التجارية مع السودان بأن الخرطوم غير آمنة وأن التهديدات الإرهابية تتنظر رعاياكم هناك؟..
من أوجه التناقض في تبرير قرار رفع العقوبات والتحذير من عمليات إرهابية في السودان أن رفع العقوبات جاء بعد شهر على قرار آخر يقر ضمنيا أنه ليس هناك تهديد إرهابي قادم من السودان، عندما رفعت إدارة الرئيس دونالد ترامب اسم السودان الشهر الماضي، من قائمة الدول التي يخضع مواطنوها لقيود صارمة لدخول الولايات المتحدة، وكان السودان البلد الوحيد الذي يرفع اسمه من القائمة.
اللافت أن بيانات التحذير للمواطنين الأمريكيين من السفر إلى السودان تكاد تتطابق في نصوصها نفس العبارات والتوصيفات قبل رفع العقوبات وبعدها فالتحذير الأخير لا يختلف عن آخر تحذير صدر في نهاية مارس الماضي أو حتى التحذير الذي صدر بالتزامن مع القرار الأمريكي بحظر دخول المواطنين السودانيين في يناير الماضي وهنا يكمن التناقض فرغم إزالة السودانيين من قائمة حظر السفر ومن العقوبات الاقتصادية لا يزال التحذير لرعايا أمريكا من السفر إلى السودان قائما.
من يعيد قراءة بيانات الخارجية الأمريكية وخصوصا القرار الأخير الصادر يوم الخميس التاسع عشر من اكتوبر الجاري والذي نص على طلب السفارة الأمريكية بالخرطوم من موظفيها استخدام السيارات المصفحة لكل السفريات ومنع السفر خارج الخرطوم بدون إذن مسبق، يرى أن الواقع يناقض ذلك تماما فموظفو السفارة الأمريكية حتى في خضم الحصار والعقوبات وتوتر العلاقات كانوا يتنقلون في مختلف مناطق السودان دون أدنى تهديد بل كانوا يخالطون المواطنين السودانيين ويشاركونهم الأفراح وموائد رمضان في الطرقات ويغشون حلقات الذكر لمشايخ الصوفية ويحضرون مباريات كرة القدم من داخل الملاعب السودانية من دون الحاجة إلى السيارات المصفحة.
وفي سياق التناقضات نفسها وجهت سفارة الولايات المتحدة في السنغال أمس الجمعة رسالة إلى رعاياها توصيهم بـ”التزام الحذر، في المناطق التي يرتادها أجانب في العاصمة دكار بسبب تهديد يتمتع بالصدقية مرتبط بنشاطات إرهابية محتملة”. وأوضحت السفارة أن “طاقم السفارة ممنوع من الاقامة في فنادق دكار الواقعة على شاطئ البحر حتى الأسبوع الأول من نوفمبر”، مشيرة إلى أنه “على المواطنين الأمريكيين أن يتوقعوا عمليات مراقبة أمنية أعمق عندما يتنقلون في دكار”، والجدير بالذكر أنه خلافاً للعديد من الدول المجاورة لها، لم تشهد السنغال حتى الآن اعتداءات إرهابية وتستعد لاستقبال (المنتدى الدولي حول السلام والأمن في أفريقيا) يومي الثالث عشر والرابع عشر من نوفمبر المقبل.
محمود الدنعو
اليوم التالي

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.