أميركا تعيد تخليق كائن قتل 50 مليون شخص.. ولهذه الأسباب قد يخرج عن السيطرة مجدداً

تحتفظ منشأة احتواء عالية التأمين في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأميركية بكائنٍ حيٍّ، كان مسؤولاً في غضون بضعة أشهر -في الفترة من عام 1918 حتى 1919- عن موت عددٍ من الأشخاص يفوق عدد قتلى الحرب العالمية الأولى.

ورغم اختفائه منذ ذلك الحين حتى عام 2005، أعاد العلماء إحياء سلالة “إتش1 إن1” من فيروس الإنفلونزا، بغرض فهم تأثيره الكارثي على البشر حول العالم منذ قرنٍ مضى بصورةٍ أفضل. ولكن كما توضح الكاتبة لورا سبيني في كتابها Pale Rider، فهناك إجماعٌ عالمي على أنَّ إعادة إحياء تلك السلالة ليست فكرةً جيدة.

ظلَّ وباء الإنفلونزا الإسبانية، الذي قتل على الأقل 50 مليون شخص حول العالم، لغزاً محيراً، ليس فقط لأنَّ العلماء ما زالوا غير متأكدين من سبب كونه فتاكاً بهذا الشكل، ولكن لأنَّه كان حدثاً عالمياً هائلاً بدا أنَّه قد نُسِيَ لعقود، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.

ووفقاً لتقرير الغارديان فإن هذا ما يسعى كتاب Pale Rider إلى تغييره؛ فهو ملحمةٌ من المآسي، وكذلك تحقيقٌ واسع في الأمر. ففي نهاية الحرب، ظهرت الإنفلونزا فجأةً بين الجنود الضعفاء والسكان الذين يعانون من نقص التغذية، وانتشرت بسرعةٍ مقلقة.

وأفاد المصابون بها بشعورهم بالدوار، والحُمَّى، والخمول، وأنَّهم كانوا يسعلون دماً؛ وكانت النتيجة النهائية لاثنين من كل 100 مصاب على الأقل هي الموت خلال أسابيع. وكان الأشخاص بين سن العشرين والأربعين هم الأكثر عرضة للإصابة.

مرض غامض

لم تكن هناك أدواتٌ متاحة حينها للتعرف على العامل الغامض المسبب للمرض. ولكننا نعرف الآن أنَّ فيروس الإنفلونزا هو طفيلي يحتاج إلى خلايا مُضيفة خاصة بكائنٍ حي آخر للتكاثر. والخلايا المناسبة بالنسبة للفيروس في البشر هي الخلايا المُبطِّنة للرئة. وبمجرد تكاثره، يجب على الفيروس الرحيل عن المُضيف، والانتشار في الهواء وإصابة مُضيفٍ آخر إن كان يريد البقاء على قيد الحياة.

تمثل أعراض الإنفلونزا ردة فعل الجهاز المناعي للجسم المُضيف على هذا الغزو الفيروسي. إذ تُثار الأجسام المضادة، وتهرع الخلايا المناعية إلى موقع العدوى، وتُطلِق نوعاً من المواد الكيميائية القاتلة للفيروسات تُعرَف باسم السيتوكينات (ناقلات كيميائية تعمل كأداة أو حلقة اتصال بين مكونات الجهاز المناعي)؛ ولهذا فإنَّ إصابة الجسم المُضيف بالالتهاب هي ربما ثمنٌ بسيط يدفعه الجسم.

لكنَّ فيروس الإنفلونزا بصفة عامة يُظهِر ميلاً إلى التحور وتوليد سلالاتٍ مختلفة؛ ومن هنا تأتي الحاجة لتصنيع أمصالٍ جديدة كل عام للتعامل مع التفشي الموسمي للفيروس.

وفي حالة السلالة التي أُطلِقَ عليها الإنفلونزا الإسبانية، أثارت العدوى الفيروسية عاصفةً من السيتوكينات داخل بعض الضحايا، وهو ما أدى إلى ظهور التهابٍ شديد كرد فعلٍ في رئات المرضى، الأمر الذي كان مدمراً للغاية لأجسامهم.

الأنانية هي الحل

تستحضر لورا، الصحفية العلمية المرموقة، مأساة الإنفلونزا الإسبانية في كتابها، حيث “كانت أفضل فرصك في البقاء تتمثل في كونك أنانياً، “وحمايتك بأنانية لمخزونك من الطعام والمياه، وتجاهلك لكل طلبات المساعدة”.

ترسم لورا في كتابها صورةً للهستيريا التي انتشرت في أثناء الموجات الثلاث لانتشار الفيروس (وكانت الثانية هي الأكثر فتكاً) التي اجتاحت العالم.

كانت هناك أوبئةٌ من قبل، وأبرزها الإنفلونزا الروسية في تسعينات القرن التاسع عشر، التي قتلت نحو مليون شخص، ولكن لم ينتشر وباءٌ من قبل بهذا الشكل. كانت الجثث المنتفخة تسد الأنهار، ولم يتوقف قرع الأجراس من أجل الموتى، وحجبت الأدخنة ضوء الشمس لأيام، بسبب حرق الجثث التي لم تُدفَن في محارق جماعية جنائزية ضخمة.

عنوان الكتاب مستلهم من سفر الرؤيا، ومن المجموعة القصصية الملحمية Pale Horse, Pale Rider، مجموعة القصص الروحانية الإفريقية الأميركية التي كان اسم الفارس فيها هو “الموت”.

يمتلئ الكتاب بقصصٍ مثيرة للشفقة في كل صفحاته، تبدأ بالشاعر الفرنسي غيوم أبولينير، الذي نجا من الخنادق والعمليات الجراحية لاستخراج الشظايا من دماغه، ليموت بعدها بأسابيع نتيجة إصابته بالإنفلونزا.

كان ممكناً أن يتمكن الأطباء من إنقاذك من إصابات المعارك، لكنَّهم لم يكونوا يملكون الكثير حينها لتقديمه لهؤلاء الضحايا. فلم تكن للآمال الكبيرة المعلقة على الأسبرين وقدراته العظيمة في خفض الحُمَّى أي أساس من الصحة.

وحسب وصف الكاتبة “فقد كافأ الرب المسيحيين التائبين في زامورا بإسبانيا بواحدٍ من أعلى معدلات الوفيات؛ واختار الوثنيون في أوديسا، بعد أن استعاروا الطقس اليهودي القديم المعروف بـ”الزفاف الأسود”، تزويج البشر في المقابر، ظناً منهم أنَّ “عقد رابط الزواج وسط مقابر الموتى الهالكين ربما يُوقف العدوى”، وفقاً لما كتبه المؤلف منديل سفوريم.

وباعتبار أنه لم يكن بالإمكان علاج الإنفلونزا، فلربما كان بالإمكان الحد من تفشيها. وقد حاولت الدول تطبيق سياسة الحجر الصحي، وإغلاق حدودها مع إلقاء كلٍّ منها باللوم على الأخرى فيما يتعلَّق بمصدر الفيروس، فلا بد أنَّه بدأ من مكانٍ ما.

وعلى مدى عقود، انحسر الشك في 3 احتمالاتٍ مُرجَّحة ترتبط بحركة العمال والجنود إلى الخنادق: مقاطعة شانسي في الصين، ومعسكر فنستون بولاية كانساس الأميركية، وبلدية إتابلس في فرنسا. ولم يثبت أي شيءٍ بعد، لكن ثمة شيئاً واحداً مؤكَّداً رغم ذلك، وهو أنَّ الإنفلونزا لم تنبع من إسبانيا رغم تسميتها.

ولا يُعَد Pale Rider مجرد تنقيبٍ في الماضي وحسب، بل هو إعادة لتصوُّر هذا الماضي أيضاً. فمع التقدُّم في الكتاب، تظهر الإنفلونزا على نحوٍ متزايد كنوعٍ قادر على التغيُّر والتأقلم في لحظاتٍ مهمة في التاريخ، مُبدِّلةً مسار أحداثٍ لم تُعزَ إليها سابقاً.

وتُقدِّم لورا حججاً مقنعة؛ فعلى سبيل المثال، تنظر إلى الإهمال الطبي من جانب بريطانيا لمستعمرتها في الهند، باعتباره مُحفِّزاً لحركة الاستقلال الهندية في نهاية المطاف. وتجادل أيضاً بأنَّ الإنفلونزا كان لها تأثير على توقيت نهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك بتسبُّبها في توعُّك الجنود الألمان.

وبدا أنَّ سبب تلك الضراوة الشديدة للإنفلونزا الإسبانية قد كُشِفَ جزئياً بعد عقود حينما فُحصت قطعةٌ نادرة محفوظة من نسيج رئة يعود لأحد ضحايا التفشِّي الوبائي في عام 1918. وأظهر التسلسل الجيني أنَّ بنية ذلك الفيروس تحمل تشابهاً وثيقاً مع فيروس الإنفلونزا الذي عُثِرَ عليه في الطيور.

وحتى تسعينات القرن الماضي، كان يُفتَرَض أنَّ فيروس إنفلونزا الطيور لا يمكن أن ينتقل إلى البشر. لكنَّ الفيروس تحوَّر وبدأ في إصابة أنواعٍ أخرى من الكائنات. وكانت حداثته بالنسبة للبشر تعني أنَّ نظام المناعة البشري كان ضعيفاً وغير مستعدٍ للصدمة، وهو ما أثار استجابةً عنيفة من النظام المناعي.

صُعِقَ الناس من الدمار الذي حدث في عام 1918. وبعد ذلك، اختاروا أن يحموا أنفسهم بعدم تذكُّر الأمر. وكان تأثير “أم كل الأوبئة”، كما كانوا يدعون الإنفلونزا، على مجتمع السكان الأصليين في خليج بريستول بألاسكا قوياً للغاية، لدرجة أنَّ زعماء هذا المجتمع نصحوا الناجين بـ”التظاهر كأن شيئاً لم يكن”. وفي أماكن أخرى كثيرة، اتُّخِذ القرار باختيار الصمت، وإن كان بشكلٍ أقل صراحة من الدعوة المباشرة التي وجَّهها زعماء خليج بريستول.

إعادة تخليقه

وتعتقد مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها أنَّه من المرجح حدوث تفشٍّ وبائيٍّ آخر، إن لم يكن هذا حتمياً. وقد عكس باحثو المركز في أتلانتا نظام الجينات لتخليق الفيروس الذي انتشر في 1918.

وفي حين جرى التعبير عن القلق من أنَّ ذلك قد يوفر مُخطَّطاً أولياً للإرهابيين البيولوجيين “لتطوير ونشر وباءٍ مُدمِّر في العالم”، يؤكِّد المركز أنَّ إعادة تخليق الفيروس تهدف للتصدِّي لـ”التهديد المحتمل الذي تُشكِّله السلالات الجديدة”.

ويتَّفق مع ذلك عالم الفيروسات الشهير جون أوكسفورد، فيقول: “إتش1 إن1 لديه قدرة مؤكدة على القتل، وليس علينا أن نجلس هنا ونستقبل تفشِّيه كما فعلوا في عام 1918”. لقد كرَّست لورا قلمها ببراعة من أجل هذه القضية.

هاف بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.