الانقلاب في الحركة الشعبية: تقرير المصير – فزاعة قميص عثمان

“لقد تعلمنا التحليق في الجو كالطيور، والغوص في البحر كالأسماك، لكننا لم نتعلم أبسط الفنون: ألا وهو (فن العيش معا) كإخوة و كأخوات”
مارتن لوثر كينج

ما دعاني للكتابة بهذه (الشفافية): نقدا لأنفسنا ابتداء، لدرجة الخوض في أمور داخلية، محلها التنظيم. ذلك لأن الشفافية هي إحدى الوسائل الأساسية، التي تجنبنا الأزمات الخطيرة، كالأزمة الراهنة.

وبذات الشفافية سنواصل كتابتنا، في هذه السلسلة التي ابتدرناها في المقال السابق، بحديث عام، عن (الاستقالة الأخيرة) للرفيق الحلو، والتي ليس لدينا أدنى شك في (عدم مبدئيتها)، و ان الرفيق الحلو قدمها ك (تكتيك) فقط لإحداث تعديلات محددة، في موازين القوى داخل التنظيم لصالحه. وما لم يضعه في اعتباره أن السحر، كثيرا ما ينقلب على الساحر، إذ يبدو واضحا الآن، أنه يعجز عن السيطرة على هذا (التكتيك) غير محسوب العواقب! فعمليا تجاوزت الأمور، حد (تعديل في التوازنات) إلى إحداث (انقسام في التنظيم والجيش) بدخول لاعبون آخرون: كالقوميين النوبة و الإسلامويين، و (توجيههم للاستقالة) بما يخدم أغراضهم!

هل نحن نفتري على (القومويين النوبة)، الذين لا يتعدون عدد أصابع اليدين والقدمين، والذين في الحقيقة لا يخفون انتماءاتهم للتوجه القديم للحزب القومي- فيليب غبوش، و الذي واجهه من قبل القائد الراحل (يوسف كوة) بقوة، إدراكا منه لخطورة هذا التوجه، على قضايا النوبة كمجموعة لها خصوصيتها في السياق العام للتنوع السوداني، من جهة وكمكون غني بثقافته وارثه ومعارفه، بين مكونات الأمة السودانية، من جهة أخرى.

هل نفتري عليهم، عندما نتهمهم أنهم ومجموعة محدودة من ذوي التوجه الإسلاموي، عمدوا إلى توظيف استقالة الرفيق الحلو، لتمضي في هذا الاتجاه الانقسامي الخطير، الذي لا يخدم سوى مصالح النظام؟

وهل نحن نفتري على هذه المجموعة المحدودة نفسها، عندما نزعم أنها هي التي ظلت في الخفاء، تتناغم مع الحملة المسعورة، التي شنتها أجهزة النظام وابواقه، لتشويه صورة الحركة وقادتها، بتلفيق الأكاذيب التي يجيدونها؟ لثقتهم التامة، أن الرفيقين عقار وعرمان، يقفان حجر العثرة القوي، أمام طموحاتهم الشخصية، التي في سبيلها بذل بعضهم بالفعل للغرب وعودا مستجدية ل (إطلاق يده في الموارد) مقابل (دعمه لحقهم في تقرير المصير) فبئس التوجه وبئس الطموح!

اذا كان متوقعا من ذوي الانتماءات السابقة (المعلنة) للجبهة الإسلاموية، بما تشكل عليه وجدانهم الاسلاموي الانتهازي الطفيلي، الذي لا ينتمي من الأساس لوطن، أن ينشطوا في هذا الوقت بالذات، حتى ليتكشف سلوكهم عن خلايا كانت نائمة، ونشطت ابتداء من اللحظة التي تسربت فيها (الاستقالة الأساسية الأولى) التي قدمها الحلو للرفيقين ياسر عرمان ومالك عقار، والتي (تلت الاستقالة الشفاهية) التي كان الحلو قد قدمها في اجتماع بكبار الضباط، الذين اقنعوه وقتها أن يقبر الموضوع ويدفن، تفاديا للبلبلة في ظل الظروف المعقدة، التي ظلت الحركة تمر بها، وظل هذا الحدث طَي الكتمان!

إذا كان هؤلاء الإسلامويين، المختبئين داخل عباءة النوبة، يتماهون الآن في القومويين، بحيث يصعب الفصل بينهما.. فكلاهما ينشط في تبني قرارات، ضد رؤية الحركة، هي في الحقيقة قرارات (مؤتمر كل النوبة ٢٠٠٢) التي عالجها مفاوضو الحركة -وقتها- في نيفاشا وطرحوا بديلا لها (صيغة المشورة الشعبية) كحل للمنطقتين، فالمرجعية الجغرافية هي حدود ١٩٥٦، وبذلك تم إخراج المنطقتين، من حسابات تقرير المصير..

وتلك كانت علامة فارقة في براعة مفاوضي الحركة وحرصهم على وحدة السودان، و تكشف عن صدق الانتماء لهذا الوطن الواحد الموحد الكبير، كما تكشف عن المبدئية والأخلاقية في التعاطي مع قضايا وطننا المصيرية.

ولكن هل صمت القومويين وبقايا الإسلامويين، أو خلاياهم النائمة، على هذه الهزيمة النكراء لمشروعهم الانقسامي؟ قطعا لا، فمنذها يحاولون اقحام (حق تقرير المصير) في (مانيفستو الحركة ودستورها) حتى يتمكنوا من إعطاء هذا المبدأ مشروعية قانونية؟!
وعندما فشلت كل محاولاتهم، قرروا فرض (تقرير المصير) (بالانقلاب) على القيادة الشرعية..

وبطبيعة الحال ينشط أيضا في مثل هذه الظروف المعقدة، الانتهازيين وأصحاب الأغراض من غير الإسلامويين والقومويين، لتصفية حساباتهم (غير الموضوعية) مع الرفيقين ياسر عرمان وعقار، وبعض الرفاق الآخرين، يخدمون بذلك توجه السلطة والقومويين، سواء أرادوا ذلك أو لم يريدوا!

وقطعا ان مثل هذه التوجهات الانفصالية، البائسة شعب النوبة وحده، قادر على اسقاطها. فضلا عن المجموعات التي تساكنه، والتي تعي تماما أهمية مشروع الحركة الشعبية لمستقبل المنطقة في إطار السودان الكبير.

ان مصدر قوة مشروع الحركة الشعبية/ شمال في استلهامه لهذا التنوع الكبير لبلادنا الكبيرة، والذي تسعى جاهدة لعكسه خارجها، كمصدر قوة خلاقة لهذه الأمة، وليس عاملا لاضعافها وإذكاء نيران الانقسامات الاثنية والثقافية، التي بعد كل ما خاضته بلادنا من حروب لتحقيق المواطنة الحقة، يجب ألا نتنازل عنه بسهولة..

فالتنازل عنه لصالح الاثنيات، يعني ابتداء: أن دماء الآلاف المؤلفة من الشهداء في الهامش ضاعت هدرا. وان احزان ودموع ملايين الأرامل واليتامى لا تعني شيئا.. بل وإن نضالات القوى الوطنية الديمقراطية، التي تمثل أفكارها روافدا لمشروع (الحركة الشعبية كتيار أساسي له رؤيته المتجددة، التي تتفاعل مع رؤى القوى الأخرى، لخير هذا الوطن)، وما واجهه مناضلي هذه القوى الديموقراطية، من بطش وقمع وتعذيب في المعتقلات وبيوت الاشباح، حد القتل ليس لها ثمن! وان.. حتى أرواح قتلى الأوبئة والأمراض والفقر والجوع، التي تحلق فوق رؤوسنا، مضت إلى بارئها مجانا!

لذلك الأزمة الراهنة، لا تخص الحركة الشعبية وحدها، فهي تخص أيضا القوى الوطنية الديمقراطية، وتضعها أمام مسؤولية كبيرة تجاه قضايا الوحدة والانقسام، الذي كما علمتنا التجربة، يبدأ في الحزب وينتقل إلى الجسم العليل لهذا الوطن المنهك!

بل وتطرح الجدية في السعي يدا بيد، وكتفا بكتف، كخيار استراتيجي، لتحقيق دولة المؤسسات والقانون والمواطنة والعدالة، والفرص المتساوية، التي تهدم التحيزات بكافة أشكالها وأنواعها، والديموقراطية بمحتواها التنموي والاجتماعي، الذي وحده كفيل بصلب متناقضات التنوع، والقضاء على النزعات الاثنية.

و قبل القوى الوطنية نشدد على الحركة الشعبية نفسها، بأن صِمَام أمان وحدتها: (المؤسسات) فدونها لا يمكن إدارة التنظيم ومشروع الحركة، على نحو فاعل ومؤثر، يحقق أغراضها السياسية والاجتماعية، فالحركة لن تظل إلى الأبد ترفع البندقية..

وقطعا سيجيء الْيَوْمَ الذي تضع فيه هذه البندقية، بانتفاء الغرض الذي رفعت في سبيله، وهي اللحظة التي يجب أن تعمل لأجلها منذ الآن، ببناء حزب مدني حقيقي، ومؤثر بحواضنه الاجتماعية القوية، في هذا الفضاء المتنوع لبلادنا الكبيرة، للإسهام الفاعل مع القوى الوطنية الديمقراطية الأخرى، في إدارة الوطن. فقد مضى الزمن الذي تحكم فيه الأوطان، وفقا لرؤية أو تصور أحادي عرقيا او ثقافيا او عقديا او فكريا.

خاصة أن الأمة السودانية هي افريقيا مصغرة بمكوناتها الافريقية والعربية.. بدياناتها ومعتقداتها وأعرافها وتقاليدها وثقافاتها المختلفة، حيث لا يحق لمكوّن أن يستعلي ويهيمن على المكونات الأخرى.

والأمر كذلك لا يمكن ان تكون هذه الأمة تتبنى أفكارا ضد نفسها، وهو ما أدركته الحركة الشعبية في قراءتها لتجربة (تقرير المصير في الجنوب) هذا الجزء الذي سيظل عزيزا علينا، ونحلم بوحدته مع بقية أجزاء الوطن مرة أخرى، يدفعنا إيماننا، إن أعظم الأفعال تبدأ بالأحلام، التي نسعى بصدق لتحقيقها.

هذا الشعب بكل مكوناته هو الأمة وهو دولتها. هذا ما نؤمن به كحركة شعبية/ شمال، ونفضل لو اقتضى الأمر أن نبقى وحيدين، على أن نتنازل عن هذا الإيمان، الذي يشكل قاعدة موقفنا من هذا الانقلاب، وهو موقف ضد مواقف (الأفراد المخدوعين) الذين لا شك سيفيقون على الحقيقة، فتلك مسألة وقت، وعندها سيجدون تنظيمهم كعهدهم به يفتح ذراعيه لاحتضانهم، وهو موقف كذلك ضد مواقف فئات تنظر غير ما تنظر الحركة الشعبية، وفق رؤيتها للسودان الجديد، وتتعمد بتبنيها للمشروع وافراغه من مبادئه الأساسية، التشويش على الشعب، فيختلط الحابل بالنابل، ولا يعد يفرق بين أيهما على حق وأيهما على باطل! فتضيع وتختلط مقاصدنا بمقاصد غيرنا، وتضيع غايتنا في غاياتهم، هذا ما يريدون، لذا يجب أن نعي كيف نفوت عليهم الفرصة.

نحن لسنا حزباً سياسياً يخدم مصالح فئة معينة أو إثنية معينة، بل حزب يعبر عن مصلحة الأمة، ولذلك نحرص على تسمية الأمور بأسمائها، وإن كانت تسمية الأمور بأسمائها جارحة و حادة ومؤلمة، ولكن (آخر العلاج الكي!)

ولذلك يجب في حالة الطوارئ الداخلية الراهنة، أن نجدد جميعنا ثقتنا في القيادة الشرعية، وندعمها ونعمل معها على ترتيب البيت الداخلي، واستقرار التنظيم ومؤسساته، والعمل على وحدته وإعادة مساره إلى الطريق الصحيح، لتتمكن الحركة الشعبية فعلا، من القيام بدورها الوطني بكل قدراتها و بكامل طاقاتها.

أحمد ضحية_ سودان تربيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.