في نقد “ليبرالية الهوية”: حالة باسم يوسف

في لقاء تلفزيوني للإعلامي المصري باسم يوسف مع قناة دويتشه فيله الألمانية، سألت مقدمة البرنامج “باسم” عن شعوره كمسلم إزاء خطاب الكراهية ضد المسلمين في أميركا بعد تولِّي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فأجاب باسم بأن علينا ألا ننسى أن الأغلبية من المسلمين فعلوا ذلك بغيرهم، ولديهم خطاب شبيه بخطاب ترامب.

يجيد باسم يوسف انتقاء كلماته، ولا يمكن إذا ما غادرنا فضاء التربص والمكايدات على مواقع التواصل الاجتماعي أن نقتنص تعبيراً ينطوي على خطأ علمي أو أخلاقي صريح يمكن تفنيده. إن هذا المقال، إذن، ينأى بنفسه منذ البداية عن أن يكون موضوعاً لأحد هذين الغرضين: التهجم الشخصي، أو التفنيد العلمي.

لكن هل تبقى مفارقة إذن في تصريحات باسم يوسف تستحق التناول؟ “مفيش دخان من غير نار”، كما يقول المثل الشعبي، ولا تنشأ المكايدات أو محاولات التفنيد إلا عندما تكون هناك مفارقة تستحق التأمل. فعندما يُسأل باسم يوسف عن شعوره كمسلم، ليس من الطبيعي أن يكون حريصاً على إثبات نقده الذاتي للمسلمين على هذا النحو؛ فالنقد الذاتي لا يكون غالباً ضمن حديث مع الآخر، أو ضمن تعبير عن المشاعر الإيجابية أو السلبية تجاه الآخر. إن ما يفترض في تلك المناسبات هو تصدر الـ”نحن” للحديث باسمها مع الآخر، وما فعله باسم ببساطة هو تخلٍّ واعٍ تماماً عن تلك الـ”نحن”.

ينبغي أولاً الوعي بأن باسم يوسف في هذا التخلي ليس بِدَعاً من العرب، وإنما هو ابن جيل عربي قرر بكامل إرادته، وهو في كامل قواه العقلية، التخلي عن تلك الـ”نحن” العربية، معتبراً ذلك شرطاً للتطهر على عتبة الدخول إلى الأسرة الإنسانية المتخيلة، والمفترضة شديدة النقاء والتجانس.

لقد ولد جيل عربي بالكامل بعد أن صارت القومية العربية مضرب مثل للرذائل، وبعد أن تحمَّل العرب وزراً طويلاً من الهزائم والنكبات التي لم يعد مجدياً معها تحميل المسؤولية لآخر، لا يبرر وجوده وتآمره كل تلك الجرائم التي ارتكبتها أنظمتنا بنفسها، في ظلِّ صمت شعبي متواطئ معها أحياناً.

وقد تحول سؤال النهضة، لماذا تخلَّف العرب والمسلمون وتقدَّم غيرهم؟ إلى كابوس بدا أن الانتحار -وهو في تلك الحالة التخلي عن أن نكون عرباً أصلاً- هو السبيل الوحيد للهروب منه.

لقد قدَّم الإسلاميون التعويض والإجابة على مدى عدة عقود، وهو ما أخّر انفجار تلك الحالة من اليأس واحتقار الذات، لكن انحدار الإسلاميين وهزيمتهم لم يلبث أن فجَّر كبتاً ويأساً عمره قرن بطوله.

كانت نسخة عربية، وربما “عالمثالثية”، من “ليبرالية الهوية” (التعبير لمارك ليلا، المؤرخ وعالم السياسة الأميركي) هي البديل المتوفر والأمثل في آن لذلك الجيل الذي تطلَّع في إطار تحول اجتماعي وأيديولوجي عالمي معروف، إلى نمط الحياة الأميركي. وشكّل هذا الأخير بالنسبة إليه الحلم والأيديولوجيا. وإذا كانت “ليبرالية الهوية” في نسختها الأصلية الأميركية، قد حررت الفرد، وجرّدته في الوقت نفسه من هويته الجندرية والإثنية، فإن النسخة العربية منها قد حرَّرت هؤلاء الشباب من انتمائهم القومي إلى العروبة والإسلام ومركبات ثقافتهم المهزومة والمأزومة.

لقد كان الخروج من تلك الهواجس القومية إلى قيم كونية ما بعد حداثية تأخذ الفردانية إلى نهايتها القصوى بتحرير الإنسان من أية التزامات أخلاقية أو اجتماعية، أشبه بطقس تطهري، وكانت تلك الليبرالية الهوياتية أشبه بمُرشِّح أو مُقطِّر ينتقل الإنسان عبره إلى تلك الصورة المتخيلة عن الغربي الراقي الناجح والمتحرر من هواجس الإنسان القديم وأوزاره.

لقد انشغل العالم بالتحولات السياسية التي شهدها عقدَا الثمانينات والتسعينات، ولم يلتفت إلى تحول مادي تحتي أكثر عمقاً يضرب بجذوره في أنماط الإنتاج والاستهلاك وأدواتهما، ويطيح بمركبات الثقافة والقيم التقليدية، ويخلق عالماً من الأفراد المجرَّدين من الهوية والانتماء. وعبر هوليوود، وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي، صار الحلم بالدراسة في الأكاديميات الغربية المهيبة، والعمل في مؤسسات الغرب العملاقة، وعيش نمط حياة رواد الأعمال والمديرين الناجحين، حلماً لكل شاب عربي.

أسهمت تلك التطلعات ولا شك في شحذ الطاقة الثورية التي أفرزت الانتفاضات العربية، لكن محدوديتها القيمية لم تلبث أن تجلَّت في انسحاب قطاع عريض من الشباب من السياسة، التي بقيت علاقتهم بها محصورة بصب اللعنات على الأنظمة والإسلاميين والشعوب والجميع، ليتوحد الفرد الحر في حلمه الأميركي ورقيه الإنساني المترفع عن الهواجس القومية والدينية ومعرّاتها وانتكاساتها وجرائمها.

لقد تخلَّت “ليبرالية الهوية”، في اللحظة التي تخلَّت فيها عن أطر الانتماء القومي والديني، عن المرجعية القيمية التي يمكن أن تمد الإنسان بالتزامه الأخلاقي، ولم تفهم أن الانتماء القومي والديني ليس مسألة جبر أو اختيار، وإنما هو واجب أخلاقي وضرورة في الوقت نفسه كمرجعية أخلاقية عينية للإنسان. أما ما وفَّرته تلك الليبرالية من قيم كونية، فإنها وفرته في الحالة العربية مشوباً تماماً من دونية مقيتة أمام الرجل الأبيض الذي مهما فعل، فإن ذنوبه تضيع في بحر سيئاتنا وأمام خطيئتنا الأصلية بأننا لم نكنه.

وهكذا تمت محاكمة ماضي نحو اثني عشر قرناً إلى حاضر لا يبلغ عمر قيمه أكثر من مائتي عام، ولم تعمل النزعة النقدية لدى تلك الليبرالية مع الماضي الغربي بنفس تلك الصرامة، التي لطالما سخرت من افتقاد الآخرين لها. وباسم الاعتراف بمسؤوليتنا الذاتية، بُرِّئت ساحة الرجل الأبيض من نحو مائة عام من الاستعمار، وضعفها من الاستغلال الرأسمالي والتلاعب اللعين، ليس بالعربي فحسب، ولكن مع الغربي كذلك.

إننا لا نروم جلد هذا الجيل، بقدر ما نروم تبيان محدوديته الأخلاقية، ولا نروم إسقاط كونية قيم الحرية واحترام الفردية ومواجهة سلطة التقليد الاجتماعي الغاشمة، كما يسقطها كثير من مفكري نقد الكولونيالية على نحو شمشوني، ليس أقل في عدميته من تلك النزعة الليبرالية، وإنما نروم أن نبكي على ضحايا متطرفينا لأنهم يستحقون البكاء، لا لنثبت خلو مسؤوليتنا، ونروم أن نُدِين تطرفنا لأنه خطأ لا لنتطهر منه على مذبح الرجل الأبيض، ونروم أن ندخل الإنسانية محتفظين بذاكرتنا وشعورنا بذواتنا، لا بعد أن نصير مسوخاً بلا التزام نضالي نهضوي تجاه أهلنا، ولا شعور بالواجب، ولا مرجعية أخلاقية نركن إليها.

– تم نشر هذه التدوينة في موقع العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.