إنسانية من نوع آخر

(لم تكن الإنسانية يومًا في تعاطفي مع الآخر وإنما في تحمل وجوده جانبي)… قالها نيتشه، ولم أدرك معناها حتى تجسدت لي في حادثة أليمة باتت ذكرى مزعجة لا تنفك عن كيّ عقلي بالآلام كلما تذكرتها، وباءت كل محاولات نفضها عن ذهني بالفشل.

كانت ليلة صيف حارة خرجت فيها مرغمًا لشراء بعض الحاجيات من البقالة، وقبل أن أصل كنت منزعجًا من وطئي لعتبة الباب وقطعي لعزلتي كالعادة؛ فخلف باب بيتي يقبع عالم أكره الخروج له، لم أطق يومًا نظرات البشر الملتصقة بي كأنني كلب سائب ولا أقنعتهم التي يخفون تحتها رغبات دفينة وأفكارًا قاتمة تحجمهم عنها القيود، سخافة علاقاتهم مع بعضهم البعض، وحيواتهم الخالية من المعنى التي يتظاهرون بأن لها معنى، كلها أشياء تكوم عبئًا يجثم على نفسي ويعيق حركتي.

تحاملت عبء خروجي ولما وصلت كان العرق يتفصد من ثنايا جسدي بسبب رطوبة الصيف وزاد ذلك من انزعاجي. على عتبة باب البقالة جلست امرأة متلحفة بعباءة سوداء بدت من بعيد كخيمة صغيرة أو كيس قمامة، وبجانبها طفلة لم تتجاوز العاشرة، بدت عليهما سيماء العسر المادي، ولم يكن من عادتي تبادل النظرات مع المارة ولكن نظرت لها حينما ولجت وكانت تسدد لي نظرة تبعث على الارتياب.

جلبت الحاجيات على مضض وخرجت مبتعدًا على عجل، لحقت بي الطفلة وشدت قميصي قائلة: أعطني خمسة ريالات، قالتها بغلظة وكأنه حق لها تنتزعه مني عنوة. تجاهلتها وأكملت طريقي دون أن يظهر على وجهي أي تعبير، لكن في داخلي اعترتني رغبة بصفعها أو الصراخ بوجهها أن تبتعد، لم أكن عدائيًا يومًا ولكن كنت منزعجًا بحق من طريقتها بيد أن مزاجي كان متعكرًا أصلًا.

ثم قدم اليوم التالي ماحيًا ما حدث قبله، وتفقدت الثلاجة في الصباح لأجد أنني نسيت أن أحضر البيض ليلة أمس، لعنت الوجود وقلت لنفسي: سأحضره حينما أعود من العمل ليلا، أنهيت عملي وعرجت على البقالة قبل أن أعود للبيت، وجدت المرأة والطفلة إياها فاكفهرت ملامحي التي أخفيها تحت قناع الجمود الذي أرتديه، لا بأس فكل البشر لديهم أقنعتهم حتى أنا.

خرجت على عجل ولدي معرفة مسبقة بأن الفتاة ستلحق بي، وكان الشارع خاليًا إلا من عربة قادمة، فأسرعت بعبور الطريق قبل أن تتقدم الفتاة نحوي، وأثناء عبوري سمعت وقع خطوات أقدام تلحق بي، وفور أن وصلت للرصيف تصاعد صوت احتكاك عجلات حاد تلاه دوي ارتطام وصراخ المرأة.

التفت خلفي بحذر، فوجدت الفتاة مسجاة على الأرض الإسفلتية أمام العربة وخيط من الدم يسيل من فمها وأنفها وقد التوت ساقها اليسرى، وكانت تنظر لي كأنها ما زالت تطالب بريالاتها الخمس، تحشرجت كلمات في حلقها وبدى أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

تجمع المارة حولها وحنجرة أمها تصدح بنحيب يقذف الأسى في قلوب المتجمهرين حولها، شعور غريب لعق جسدي حينما مضيت ذاهلا مما حدث، كنت أمشي على غير هدى ولا أعرف اذا ما كنت أمضي للبيت أم لا، جزء مني كان مسرورًا أنها لن تزعجني بعد الآن حينما أعود للبقالة مجددًا، وجزء آخر كان يلح بحرقة أنني سبب ما حدث لها بشكل ما.

لعنت اليوم الذي ولدت فيه تلك الفتاة واليوم الذي ولدت فيه أنا حتى نجتمع في هذه الحادثة، وفكرت أنه ربما فعلا كانت إنسانيتي في تحمل وجودها كل يوم عند باب البقالة هي وأمها وليس في تعاطفي معهما حتى يأخذا آخر ريال في جيبي كل ما مررت جانبهما.

من يحتقر نفسه ما زال يحترم نفسه بوصفه محتقرًا
– نيتشه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.