العراق.. الوجه الآخر

1- الصراع حين يشوه صورة المجتمع

الحروب والصراعات الأهلية لا تقدم للمجتمعات سوى الخراب والدمار، على صعيد الإنسان والوطن، وأحد الأوجه البشعة للصراعات الأهلية أن مشهد الاقتتال يطغى على ما سواه من أوجه المجتمع، التي قد تكون إيجابية ومميزة.

العراق خاض حروبا متتالية مع قوى إقليمية أو دولية، قبل أن يدخل دوامة الحرب الأهلية، التي يغذيها الشحن الطائفي والعرقي، وتتداخل فيها أدوات الاقتتال المحلية بالمحيط الإقليمي والقوى الدولية، وهو ما وضعه في دوامة الصراع الدموي لسنوات طويلة.

حالة الصراع الدموي المزمنة في العراق، أخفت خلفها صورة مجتمع لا يزال فيه مكان للحياة الطبيعية، أو شبه الطبيعية على الأقل، ويكافح للنأي بنفسه عن دوامة الصراع وإفرازاتها، ولا يرى في الصراع الطائفي والعرقي إلا وجهه القبيح والمدمر.

يحاول شباب عراقيون مؤمنون بأنفسهم وبوطنهم أن يقدموا عراقا آخر للعالم بمبادرات شخصية أو تشكيلات مجتمعية، ترسل برسالة تقول نحن عراقيون لكننا غير معنيين بصراعات السياسة ومصالح السياسيين من أي مذهب أو عرق كانوا، ونحاول أن نعبر عن أنفسنا وإبداعاتنا على اختلاف ألوانها بما تيسر لنا من إمكانيات.

هؤلاء الشباب يستحقون أن يُلقى شيء من الضوء على مبادراتهم، للفت النظر فقط إلى الوجه الآخر من العراق، وجه المجتمع المعني بالحياة لا الموت، والتعايش مع أبناء الوطن لا الانتحار بسيف الطائفية، حيث يحاولون الاستفادة من تجارب شباب عرب يجدون في حالات الإبداع الثقافي والفني مساحة للحرية والبعد عن الصراعات السياسية.

يحاول الملف الرئيسي في هذا العدد تقديم نماذج من مبادرات الشباب العراقيين للتعبير عن ذاتها، وعرض صورة للحياة اليومية في العراق الغائبة عن وسائل الإعلام، حتى لا يُظن أن العراق ليس فيه سوى الاقتتال واللجوء والتشرد.

2- مبادرات شباب العراق لتغيير صورة الوطن
313

تصرّ نوف بشخصيتها القوية على أن تستمتع بحياتها رغم الضغوط الكبيرة التي تواجهها هي وأقرانها بعيدا عن وطنها، وهو أمر ينسحب على أحمد وعامر وكذلك آية -التي تعتبر الابتسامة خير سلاح لمواجهة يومها في عراق أصبح أسير الصراع المذهبي- عبر تبني العديد من المبادرات الشبابية التي يحتفلون بها كل عام.

ولجأت هذه المجموعة الشبابية إلى إطلاق عدد من المبادرات المميزة (مهرجان بغداد للسلام، وأنا عراقي أنا أقرأ، ويلا نمشي، وصور علماشي) خلال السنوات الماضية، وقد تكون بعض هذه المبادرات مماثلة لأخرى انطلقت في دول عربية وعالمية.
بغداد دار السلام
وتؤكد نوف عاصي، إحدى مؤسِسات مهرجان بغداد دار السلام، أن وجودها في تركيا بحكم عملها لصالح منظمة إنسانية دولية لم يمنعها من التواصل مع فريق المهرجان الذي يستعد في أيلول/سبتمبر المقبل لإطلاق دورته السابعة.

وعن هدف المبادرة، تقول “أردنا أن ننقل صور الفرح والحياة من بغداد عبر مهرجان يؤكد أنها دار السلام، وليست مدينة تغرق في العنف الأعمى الذي تظهره محركات البحث للذين يجهلون تاريخها وحضارتها الإنسانية”.

وأشارت مسؤولة العلاقات العامة في المهرجان إلى أن المهرجان لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج عمل شباب على مدار خمس سنوات لنشر بذرة سلام داخل كل مواطن عراقي، وإيصال رسالتهم للعالم بأنهم محبون للحياة، رغم قسوة الظروف، وأنهم ينبذون كل أشكال العنف.

وأضافت “كما أننا نحاول زرع فكرة التطوع لدى الشباب للاستفادة من أوقات فراغهم في التدريب، وقد حقق المهرجان هذا الهدف بعد أن وصل عدد المتطوعين لنحو خمسمئة شخص هذا العام”.

وترى نوف أن سبب نجاح مهرجان بغداد دار السلام، الذي انطلق عام 2011، هو تولي الشباب إقامته وتنظيمه، مما يجعلهم يشعرون بالمسؤولية ويقبلون فكرة العمل الجماعي، كما أن “الدعم الأكبر هو حضور الشباب والعائلات الذي يزداد سنويا، حيث بلغ العام الماضي نحو 140 ألف زائر”.
b527fc0f 2967 4de2 9883 1db8b78c2b80
يلا نمشي وصور على الماشي
قد تبدو التسمية جديدة على العراقيين، إلا أنها لاقت صدًى وتجاوباً بين الشباب. ويقول الناشط حيدر سامي، الذي يجد متعته في التصوير الفوتوغرافي، “لا أتردد في تصوير كل شيء، فأنا في حركة دائمة، وأحاول الاستفادة من تنقلي بين أحياء بغداد لتوثيق مناطقها الجميلة، وحتى المتهالكة منها، التي تعاني الإهمال”.

ويؤكد سامي أن فكرة “صورة على الماشي” حفزت العديد من الشباب على الذهاب إلى مناطق لم نتخيل الوصول إليها بفعل الأوضاع الأمنية المتوترة في بعضها، إلا أن الرغبة في الاحتفاظ بأكبر عدد من الذكريات باتت أمراً ملحاً للعديد من العراقيين، بعد اندثار مناطق كانت تعتبر من الأماكن التراثية المشهورة.

ويشير إلى أن المبادرة انطلقت بالتزامن مع انطلاقها في عدد من الدول العربية خاصة في تونس وفلسطين وليبيا، وتتمحور في التقاط صور للمدن خلال التجوال اليومي، ونشرها على شبكات التواصل الاجتماعي للتعريف ببلداننا.

ويضيف أنه على الرغم من أن التجربة كانت مثيرة فإنها في الوقت نفسه كانت محفوفة بالمخاطر عند انطلاقها، بسبب منع التصوير في بغداد. ويستدرك مبتسما بعد أن التقط لنا صورة خاطفة “إنها التجربة الأجمل، فقد استطعنا التقاط صور رائعة خلال تجوالنا الأسبوعي لتعريف المواطن العراقي والعربي بعاصمتنا التي تزخر بالعديد من المناظر الجميلة، وليس فقط صور التفجيرات والقتل”.

ويعترف المصور المحترف بأن الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد كانت السبب وراء جهل العديد من الشباب وصغار السن بمناطق بغداد المعروفة جراء الأوضاع الأمنية التي حدّت من حرية الحركة، مما أسهم في نشوء جيل لا يعرف مدينته إلا من خلال نشرات الأخبار، التي تغطي حوادث الموت والدمار، وهذا ما دفعنا لإطلاق مبادرة “يلا نمشي”.
b527fc0f 2967 4de2 9883 1db8b78c2b80
أنا عراقي.. أنا أقرأ
بات حلم التشجيع على القراءة طقسا يوميا يراود العديد من الشباب المهتمين بهذا الفعل الثقافي المهمل، ويقول الناشط المدني عامر مؤيد “إن انطلاق المبادرة ارتبط بالدرجة الرئيسية بتدني الوعي، وبما أن القراءة، لا سيما النوعية منها، تساهم بشكل مباشر في رفع الوعي لدى الجميع من دون استثناء فكانت تجربة (أنا عراقي.. أنا أقرأ) مناسبة لشحذ الهمم”.

وما إذا أثرت الأوضاع ما بعد 2003 على مستوى وعي القارئ العراقي، قال إن “التراجع في الوعي لا يقتصر على مرحلة ما بعد التغيير. لكن هذه المرحلة ساعدت في إشاعة الطائفية، وجعلها ركيزة لبناء الدولة”، مضيفاً “رغم كل هذا استمر النشاط المدني وتعزّز بقوة كرد فعل على أحزاب التطرف والفساد، فضلا عن أهميته في بناء إنسان متعاف فكريا”.

ويؤكد مؤيد أن يوم المبادرة لا يقتصر على القراءة فقط، بل يتضمن جوانب أخرى هامة كالرسم الحر والتشكيل والنحت، يتم خلالها توزيع ما يقارب عشرة آلاف كتاب سنويا بشكل مجاني، وذلك بالاعتماد على التبرع الذاتي للمواطنين.

وأقيمت مبادرة “أنا عراقي.. أنا أقرأ” للمرة الأولى يوم 29 أيلول/سبتمبر 2012 في حدائق أبو نواس في العاصمة بغداد، وبالقرب من نصب شهريار وشهرزاد، وحضرها آلاف المواطنين.
المدنية وليس الصراع الطائفي خيار الشباب العراقي (الجزيرة)
أنا المجتمع
ويبدو أن شهريار كان شاهداً على انطلاق العديد من المبادرات، كان آخرها “أنا المجتمع” التي أطلقتها الفنانة التشكيلية ماريا جبار يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2016، والتي حثت من خلالها الفتيات على ركوب الدراجات الهوائية والانطلاق بها من النصب المشهور، ليقطعن شوارع بغداد المطلة على دجلة.

وقد شهدت المبادرة مشاركة جيدة من الفتيات والشبان، وكانت محط اهتمام الكثيرين، ومنهم الشاعرة والناشطة آية منصور، التي تشارك مارينا الحلم نفسه من خلال التأييد والمشاركة. وتقول “على الجميع إحداث التغيير وعدم الوقوف في الوسط، وهو أمر لا يتعلق بالمرأة فحسب، بل بالرجل أيضاً”.

وتضيف “التغيير يبدأ من داخل الإنسان، وليس من خلال الأهل، وهو ما يجب علينا المحاربة من أجله”، وتؤكد أن “المرأة العراقية كانت سباقة في كل شيء، وكانت متحررة خلال العقود السابقة”.
واستغربت حدة التعليقات والانتقادات التي تلقتها الفتيات بعد ركوبهن الدراجات وتجوالهن في بغداد.

وعن المعوقات قالت آية “أكثر ما فاجأنا أولئك الذين يدّعون المدنية وينادون بالتحرر وممارسة المعتقدات دون قيود”. لكنها أصرت على رفع شارة النصر لتختم حديثها “سيعتادون رؤيتنا، فالإصرار على تقبل المرأة وكل ما تفعله سيكون الهدف لنعيش حياتنا أسوة بأقراننا في باقي دول العالم”.

وترى الناشطة تضامن عبد الحسن أن المبادرات الشبابية باتت تفرض نفسها بقوة على المجتمع العراقي، نظرا لتعطش الشباب لكل ما هو جديد وجدي بهدف تعزيز شخصياتهم وتقويتها بزرع الأمل في نفوسهم، بعد الإحباطات المستمرة التي عاشوها في ظل الحروب والاقتتال والظروف الأمنية المنفلتة، ناهيك عن البطالة وعدم توفر نواد شبابية خاصة تستوعب طاقاتهم ومواهبهم.

وترى أن المبادرات المدنية أعادت التحضر الذي عهدته مدينة بغداد المتحضرة منذ مئات السنين، ولو بجزء يسير. وأضافت أن “الشباب العراقي بحاجة إلى تفريغ همومهم وإبراز مواهبهم، كما أنهم بحاجة لمن يوجههم ويتبنى مواهبهم”، لافتة إلى أن “إصرار الشباب سيعيد بغداد مدنية كما اعتدنا عليها”.

3- برامج ساخرة تتجاوز الخطوط الحمراء
313
مشهد قد يكون عاديا في نظر الآخرين، لكنه يحمل دلالات عديدة لدى العراقيين، هذا ما أشار إليه الخريج الجامعي سعد عبد الله الذي وجدناه يتابع إحدى حلقات برنامج “مسموطة” -الذي يقدمه الإعلامي أحمد وحيد- من خلال جهاز “آيباد” في أحد مقاهي بغداد الصيفية.

ويقول عبد الله بعد تردد “إن التطرق لمعتقدات الآخرين في البلاد بات سمة تميز بعض البرامج التي تنتقد ظواهر في المجتمع العراقي بقالب كوميدي ساخر”. ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت كثيرا في انتشار هذه النوعية من البرامج الخفيفة.

ويتابع ضاحكا بصوت مسموع وهو يشاركنا مشاهدة مقطع لبرنامج “مسموطة”، “أحمد مجنون عندما اختار التندر على العراقيين بتقديسهم لبعض الشخصيات الدينية”، في إشارة إلى حلقة “يا علي دخيلك”.
المتحجي الشخصية الاكثر متابعة في برنامج ولاية بطيخ (الجزيرة)
ويضيف “لا أخفيكم أن ما يتطرق له حقيقي وواقعي، فهو يمتلك الشجاعة ليتحدث بصراحة، أما نحن الذين نخشى البوح فنكتفي بترقب ما يقدمونه كل أسبوع، دون أي فعل لإصلاح الأمر”.

وهنا جاءنا صوت نسائي موضحا أنه “لا غرابة في أن المجتمع العراقي مليء بالتناقضات الغريبة”، التفتنا لنجد فتاة في العشرين من عمرها يبدو أنها كانت تتابع حديثنا.

وترى الطالبة رنا كاظم أن “وجود برامج ساخرة عراقية أمر مهم وممتع في ذات الوقت”. وتضيف “سئمنا متابعة الأخبار السياسية التي لا تجلب لنا غير البؤس والألم”.

وتستدرك رنا “لدينا ما يكفي من المواضيع التي تصلح أن تكون مادة دسمة للضحك، كما أن حياتنا لا تخلو من الكوميديا السوداء التي نعيشها كل يوم بابتسامة على الرغم من الألم”.

ويؤكد الإعلامي أحمد وحيد -وهو معد ومقدم برنامج “مسموطة” الذي اتخذ تسميته من أكلة سمك شعبية لأهالي مدينة البصرة (جنوب بغداد) التي ينحدر منها- أنه لا يستهدف الشخصيات المقدسة أو الرموز الدينية من أجل استقطاب المشاهدين لبرنامجه الساخر.

ويقول بلهجة بصرية محببة “إن السخرية التي نعمل عليها ليس الغاية منها النيل من الآخر، بل ننتقد المجتمع والسياسة والدين بعيدا عن استهداف شخصيات بعينها كما يحاول البعض إلصاقه بنا”.

ويرى وحيد أن المشاكل التي تعيشها مدينته (البصرة) دفعته لخوض تجربة “ستاند أب كوميدي”، وكانت أولى تجاربه عام 2014 من خلال عرض مسرحي قدم وسط البصرة جمع خلاله بين الحياة الاجتماعية وانتقاده للوضع السياسي بشكل مباشر، في سابقة على المسرح العراقي.

ويعترف وحيد بأن “العمل تتخلله العديد من الأخطاء وسوء التقدير، فضلا عن استغلال بعض الأطراف التي تريد تجييره في صراعها الإلكتروني مع منافسيها السياسيين”.

واستطاعت مجموعة من البرامج الساخرة -أبرزها “مسموطة” و”ولاية بطيخ” و”البشير شو” رصد العديد من الظواهر السلبية في المجتمع العراقي، ناهيك عن الأزمات السياسية التي أصبحت مادة دسمة للتهكم والانتقاد، فقد نجحت في كسر الحواجز وانتقاد المحظور دون خوف وسط غياب للأمن والقانون.
علي فاضل قائد فريق برنامج ولاية بطيخ الذي يحظى بمتابعة العراقيين (الجزيرة)
ولاية بطيخ
ويعتمد برنامج “ولاية بطيخ” المنافس لبرنامج “البشير شو” على مشاهد تمثيلية ترتكز على مواهب شابة باتت محل اهتمام العراقيين الذين يتابعون حلقاتهم التي تبث مع خلال قناة “هنا بغداد” المحلية، وكذلك عبر قناة خاصة بالبرنامج على يوتيوب.

ويعتقد الرسام سعد يوسف أن شباب “ولاية بطيخ” نجحوا بشكل جيد في إجبار المشاهد العراقي على متابعتهم من خلال استغلالهم الوجوه الشابة غير المستهلكة، ومواضيعهم المتنوعة في الحلقة الواحدة، فضلا عن الكاركترات الثابتة للممثلين التي كانت عناصر شد أسهمت بشكل كبير في زيادة المتابعين لهم.

ويقول الفنان ومعد برنامج “ولاية بطيخ” علي فاضل إن أكثر ما يفرحنا كفريق هو كمية الحب التي نلمسها من قبل الجمهور، مؤكدا “لقد وصلنا إلى كل الفئات دون استثناء”.

ويعتبر فاضل أن “الفنان الكوميدي أحد أهم المصادر المهمة لثقافة المجتمع”، وعن اتهامهم باستهداف بعض الشخصيات أوضح “أن البرنامج لا يتناول الشخصيات السياسية والرموز الدينية إلا إذا حصل حدث يمس المجتمع يكونون المسؤولين عنه”.

ويرى أن العفوية التي يتميز بها أعضاء برنامجه سبب في الانتشار الواسع الذي اكتسبه برنامجه لدى المتلقي العراقي، ويزيد بثقة “ليس لدينا حدود، نعمل على كوميديا لـ25 سنة إلى الأمام”.
البشير شو برنامج يسخر من السياسيين العراقيين ويكسر تابوهات الشخصيات النافذة (الجزيرة)
البشير شو.. التوك شو
ليس غريبا أن يعاني العاملون في هذه البرامج من التهديدات من قبل المجموعات المسلحة وأحزاب السلطة طالما أنها تفضح بطرق مبتكرة الفساد والإهمال الذي يمارس تجاه المجتمع العراقي، وهو ما دفع الإعلامي أحمد البشير إلى تقديم برنامجه “البشير شو” من العاصمة الأردنية عمّان.

وتعتبر برامج “التوك شو” ظاهرة حديثة في الساحة الإعلامية العراقية، فعلى الرغم من تقليدها نسخا أميركية وعربية فإنها حققت نجاحا لافتا بسبب نقدها الواقع السياسي والاجتماعي بلغة الكوميديا السوداء.

ويؤكد الشاب محمد عبد الخالق أن برنامج “البشير شو” الذي يقدمه البشير قد يكون أكثر البرامج التي استقطبت الشارع العراقي لجراءتها وكسرها العديد من المحظورات، ويعتبر أن مكان بث البرنامج من عمّان ساعد القائمين عليه في تخطي الكثير من الخطوط الحمراء، ولا سيما ما يتعلق بانتقاد الساسة العراقيين ورجال الدين وحتى قادة بعض المجموعات المسلحة بالبلاد.

ويرى عبد الخالق أن برنامج “البشير شو” استطاع أن يجذب إليه شريحة الشباب والمثقفين، كما أن الجاليات العراقية خارج البلاد من أشد المعجبين به.

ويضيف “أن البرنامج استطاع بطريقته الساخرة والفكاهية والقريبة من البرامج الغربية كسب الدعم من قبل العديد من الشخصيات الإعلامية العربية والغربية”.

ويؤكد أستاذ الإعلام الإلكتروني في كلية الإعلام الدكتور عبد الأمير الفيصل أن تجارب البرامج الساخرة العراقية تحاول ألا تكون ظلا لباسم يوسف، بل أن تشكل محاولات جادة لريادة عراقية، ولرسم هوية عراقية في كوميديا ساخرة تواجه الفساد والأخطاء السياسية.

يذكر أن قناة “دي دبليو” العربية بدأت في أبريل/نيسان 2016 ببث برنامج “البشير شو” الساخر بالتعاون مع قناة السومرية العراقية التي أوقفته بعد عرض حلقتين من البرنامج في إثر ضغوط من قبل جهات متنفذة في البلاد.

ويشير أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور علي طاهر إلى أن السخرية عادة ما تكون سلاح الفقير الذي لا يستطيع الحديث بلغة نخبوية معمقة، الأمر الذي تم استغلاله بذكاء في برامج استهدفت لغة يفهمها الشارع والمواطن البسيط.

ويعتقد أن “البرامج الساخرة أداة تنفيس للغضب الذي يجب أن تتم معالجته قبل أن يتحول إلى ثورة”.
ويجد أن وسائل التواصل الاجتماعي أدخلت أنماطا جديدة من السخرية، سواء تلك التي تتعرض للدين والطائفة، بالإضافة إلى السياسة وهي الشغل الشاغل للعراقيين، ولا يخفي طاهر أن البرامج الساخرة أزالت القدسية عن الرموز الدينية والسياسية.

4- مقاهي بغداد القديمة مسكونة بالثقافة والسياسة
313
اشتهرت العاصمة العراقية منذ بدايات القرن العشرين بكثرة مقاهيها الشعبية التي توزعت في أحيائها المعروفة وعلى ضفتي نهر دجلة، ولاسيما في شارع الرشيد أحد أشهر شوارع بغداد والذي كان يضم أشهر المقاهي التي ساهمت بشكل فعال في المشهد الثقافي والسياسي العراقي الحديث.

مقهى الشابندر أو كما تسمى حديثا مقهى “الشهداء”، اتخذت ركنا مميزا في شارع الثقافة الأشهر في بغداد شارع “المتنبي”، المعروف بشارع الكتب والمتنفس الوحيد المتبقي للمثقفين والأدباء الذين يتنفسون الثقافة في جوانبه كل جمعة.

وما أن تدخل المقهى الذي يديره الحاج محمد الخشالي حتى تفاجئك رائحة “الجاي” (الشاي) المطعم بالهال، وهو ما قد لا تجده في المقاهي الحديثة، فـ”سماور” (خزان) الماء الحار و”القوري الفرفوري” (إبريق الشاي المصنوع من البورسلان) قد يكونان من مميزات الشابندر التي خصصت ركنا اصطفت على رفوفه أوان خاصة بصنع الجاي البغدادي المقدم بأقداح خاصة تسمى “الاستكان”.
مقهى الشابندر أبرز معالم شارع المتنبي (الجزيرة)
ويقول عبد القادر أحمد (35 عامًا) إن مجرد الجلوس في مقهى الشابندر يشعره بالمتعة التي تعوضه ما يمر به خلال الأسبوع من منغصات. ويشير إلى أن التوجه إلى شارع المتنبي والانزواء في أحد أركان المقهى أصبح عادة أسبوعية له.

ويضيف “اللافت في هذه المقهى وجود النساء، فمثل هذه المقاهي القديمة تكون في العادة حكرا على الرجال، إلا أن الشابندر كسرت القاعدة، فأصبح الاستماع لقارئ المقام العراقي يوسف عمر أو أم كلثوم متعة للجميع”.

ويلفت أحمد إلى أن معظم المقاهي التراثية طواها الإهمال، والقليل منها من حافظ على موروثه. وأشار إلى صاحب المقهى الخشالي قائلاً “هذا الرجل له الفضل في الحفاظ على هوية هذا الصرح رغم الخسائر التي تعرض لها”.

وبحسب أحد العاملين في المقهى، فإن الخشالي فقد أربعة من أبنائه وحفيده في انفجار وقع بشارع المتنبي عام 2007. ويقول أبو علي، وهو يحمل بيده العديد من استكانات الشاي، “رغم الحادثة وخسارته أبناءه فإنه أصر على إعادة ترميم المقهى وافتتاحها لاستقبال روادها تحت اسم مقهى شهداء الشابندر”.

وعرفت مناطق أخرى من العاصمة مقاهي كانت ملتقيات للمثقفين والفنانين بينها مقهى “الواق واق” في حي الأعظمية (نسبة إلى الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان)، ويعود تاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي، ومن أبرز روادها الفنان جواد سليم والشاعران بلند الحيدري وحسين مردان.

ويؤكد الباحث في تاريخ وموروث بغداد باسم حمودي أن تسمية مقهى “الواق واق” جاءت للفت الانتباه إلى المجموعة التي مهدت لها، موضحا “لقد سعى عدد من التشكيليين خاصة النحات جواد سليم وأخاه نزار وبعض الكتاب والمترجمين إلى إيجاد أماكن بديلة للمقاهي المشهورة حينها”.

ولا يخفي حمودي أن بعض المقاهي كانت حكرا على الطبقة البرجوازية، ويقول “كانت مقهى البرازيلية أكثر المقاهي تطورا، لا سيما مع ما تقدمه من خدمات حيث أصبحت عبارة عن مدرسة تعلّم فيها الأدباء والشعراء الكبار الكثير من العلوم والمعارف من خلال الحوارات التي تعقد فيما بينهم”. ويتابع “غالبا ما كنا نمر من أمام هذه المقهى من أجل مشاهدة المشاهير الذين يرتادونها، مثل الشاعر عبد الوهاب البياتي ورفعت الجادرجي والفنان جواد سليم”.
مقهى حسن عجمي أقدم مقاهي بغداد (الجزيرة)
مقهى الزهاوي
شيد شارع الرشيد عام 1916، وأطلقت عليه تسميات عدة حتى استقر أخيرا على اسم “شارع الرشيد” تيمنا باسم الخليفة العباسي هارون الرشيد.

بعد خروجنا من شارع المتنبي، توجهنا راجلين إلى مقهى الزهاوي، التي لا تبتعد عن مقهى “حسن عجمي” كثيرا، والتي تعد من المقاهي القديمة المشهورة المقابلة لجامع “الحيدر خانة” الكائن في شارع الرشيد وسط بغداد، وما يلفت الانتباه في المقهى صور الشخصيات العراقية بدءا من الملك فيصل والوصي عبد الإله، مرورا بصور لعبد الكريم قاسم (أول حاكم عراقي بعد الحكم الملكي).

كما أن الزجاج الملون لشبابيك المقهى والأريكة الخشبية الشعبية (الكرويتة) تتوزع بألوانها البيضاء والبنية في أرجائها الصاخبة بأصوات لعبتي الدومينو والطاولة، المحظور لعبها في مقهى الشابندر.

وكانت الزهاوي ملتقى للنخب الثقافية من وجوه المجتمع وأدبائه المشهورين مثل الشاعر المعروف
جميل صدقي الزهاوي المعروف بنشاطاته الأدبية وسجالاته الحادة مع الشاعر الكبير معروف الرصافي، إضافة لشاعر العراق محمد مهدي الجواهري وعالم الاجتماع الشهير علي الوردي وبعض السياسيين المعروفين، ويتردد أن بدايات الشاعر البصري وبدر شاكر السياب كانت في هذه المقهى.

ويعتقد القاص والأديب شفيق مهدي أن مقهى الزهاوي لعبت دورا رئيسيا في انطلاق ثورة العشرين ضد الاحتلال الإنجليزي للبلاد. ويقول “لقد شهدت العديد من المساجلات والندوات الثقافية والسياسية التي تندد بالاحتلال البريطاني آنذاك”.

وطالب مهدي الجهات الحكومية، وأمانة بغداد خاصة، بالاهتمام بما تبقى من المقاهي التراثية باعتبارها الواجهة الثقافية الوحيدة التي حافظت على هويتها على مر الأزمان.

ويذكر الباحثون أن أول مقهى شيدت في بغداد هي مقهى “خان جغان” عام 1590 في زمن الوالي العثماني “جغالة زادة سنان باشا” الذي عينه السلطان مراد الثالث الذي حكم بغداد من 1586م وحتى 1590م.
قهوة وكتاب.. مقهى بنكهة ادبية (الجزيرة)
المقاهي الحديثة
وباتت ظاهرة المقاهي الحديثة تغزو بغداد بعد أن استقطبت شريحة واسعة من المثقفين والفنانين والشباب، فضلا عن النساء، لما تقدمه من خدمات مشابهة لما يقدم في مقاهي بيروت والقاهرة، لتواكب من خلالها التطور السريع في العديد من دول المنطقة.

فقد تحولت بعض مناطق بغداد، ومنها منطقة الكرادة، إضافة لكونها تجارية، إلى مراكز سياسية وإعلامية وثقافية تستقطب المهتمين في مقاه انتشرت على جانبي شارع المنطقة المذكورة.

وأصر المصور نور على أن نقطع طريق الكرادة راجلين من نصب كهرمانة والأربعين حرامي باتجاه مقهى “كهوة وكتاب” الذي اتخذ طوابق في إحدى البنايات المطلة على الشارع الأشهر في بغداد.

وأثناء صعودنا إلى المقهى، استوقفتنا كمية صور المشاهير من فنانين ورياضيين كيوسف العاني وحقي الشبلي (مؤسس المسرح العراقي) وخالد القشطيني. ويقول صاحب المقهى ياسر علاء (29 عاما) إن مشاركاته المتعددة في معارض الكتب التي تقام في الإمارات ولبنان والقاهرة دفعته للاستفادة من تلك التجارب وخاصة المتعلقة بالمقاهي المنتشرة في كل مكان.
مقهى رضا علوان يحاكي المقاهي الشهيرة في بلاد عربية أخرى (الجزيرة)
ويتابع “كما أن هناك سببا آخر دفعني إلى افتتاح مكتبة ليلية (حسب وصفه) كون شارع المتنبي يغلق أبوابه عند الساعة الثالثة بعد الظهر، الأمر الذي شجعني على افتتاح مقهى يؤمّن خدمة قراءة وبيع الكتب”.

ويلفت نور إلى أن المكتبة التي تستقبل الرجال والنساء والعوائل، تضاهي ما هو موجود في دول الجوار، فـ”أغلب منشورات دور الطباعة تعرضها المقهى، كما أن خدمة توصيل الكتب إلى المنازل سهلت اقتناء العديد من الروايات والمنشورات وبكافة الاختصاصات”.

تركنا “كهوة وكتاب” وتوجهنا إلى مقهى “رضا علوان” التي انتشرت طاولاتها على الرصيف المحاذي لها. ويقول الصحفي علي ستار إن مقهى رضا علوان تختلف عن باقي المقاهي الشعبية التي يغلب على أجوائها الصخب، موضحًا “أقضي أغلب أوقاتي في المقهى الذي يقدم خدمات ترضي أمزجة الزبائن الهاربين من ضجيج الشارع وهموم الحياة”.

وعن دورها في المشهد الثقافي والسياسي، قال ستار إن “الأوضاع تغيرت كثيرا عن السابق، ما عادت المقاهي لها نفس التأثير القديم، فالتطور وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي سهلت الكثير من الأمور”.

وبعد دقائق من الانتظار بسبب كثرة الطلبات، وصلت قهوتنا التي طلبناه بنكهة البندق، لننهي يوما كان مليئا بالحكايات والأحداث في بلد استطاع أن يعيش الفرح رغم جراحه الغائرة.

5- “النائب” يبعث الحياة في “خردة” الدورة

لم تكن الرحلة إلى حي “أبو دشير” أحد أحياء منطقة “الدورة” – الواقعة على أطراف العاصمة بغداد- سهلة في الظروف الأمنية السائدة في العراق. لكن عندما تدنو من المنطقة تتراءى لك من بعيد أشجار النخيل المحيطة بها، تستقبلك وكأن نهر دجلة يحيطها من ثلاث جهات تنتظر غروب الشمس بين نخيلها الباسق ونهرها الهادئ.

في منظر مغاير، نجد أن النفايات والأنقاض تنتشر في كثير من الأحياء التي مررنا بها، بدءا من منطقة باب المعظم (وسط بغداد)، التي سلكنا طريقها باتجاه طريق “محمد القاسم” السريع المؤدي إلى أطراف بغداد، حيث وجهتنا التي هي الأخرى تعاني الإهمال، دون إيجاد أي حلول لهذه المشكلة.

غير أن الفنان عبد القادر النائب، الذي يحاول استغلال هذه المشكلة لما يخدم هوايته ويحسن مظهر مدينته، قد استهوته فكرة جمع قطع الخردة (المخلفات المعدنية الملقاة بين النفايات) وتحويلها بجهود ذاتية إلى قطع فنية، زين ببعض منها شوارع بغداد وعددا من محافظات العراق.

وبعد تجاوزنا نقاط التفتيش المنتشرة في منطقة الدورة، وصلنا إلى ورشة النائب، الشاب النحيل الذي لم يتجاوز عمره خمسة وعشرين عاما مرحبا بنا فيما وصفه “بحلمه” الذي افتتحه عام 2015. ورشته البسيطة لفن السكراب “SCRAP ART”، مستغلا جزءا من مساحة داره لتكون البداية لمشروعه الذي يحاول من خلاله الوصول إلى العالمية.

ويعتبر النائب ورشته التي تنتشر في كل زواياها وأرضيتها العديد من الأعمال الفنية، مستغلا قطع الخردة التي يحاول جمعها من مكبات النفاية وأسواق الحديد، وقطع غيار السيارات المستعملة، المكان الذي يجد فيه راحته ويمارس هوايته التي بدأت ترسم خطوط مستقبله.

ويقول “في بادئ الأمر كنت أجهل كل ما يتعلق بفن الخردة باعتباره فنا عالميا، فقد كان شغلي الشاغل كيف أحول المواد المستعملة وما أجده في النفايات إلى أعمال فنية، واستدرك ضاحكا “لقد استطعت أن أجعله فنا عراقيا من خلال تجاربي وأعمالي التي تحديت بها نفسي والمحيطين بي”.

وتبدو على أعماله الدقة في التنفيذ والغرابة، خاصة أن بعضها يحاكي بعض شخصيات أفلام الحركة والخيال العلمي، فقد عمد إلى صنع روبوتات ضخمة، أثبت من خلالها إمكانيته في محاكاة الواقع، بل إن بعضها يضاهي الأعمال الغربية في هذا المجال.

بعض الأعمال المنفذة من الخردة والمواد المستعملة (الجزيرة)
المواد الولية
ويوضح الفنان أن أغلب المواد الداخلة في صناعة أعماله تأتي من النفايات، ويضيف بتهكم “ما أكثر النفايات في بلدي، إنها المعين لي في تنفيذ أعمالي”، مؤكداً أنه يساهم من خلال أعماله في حماية البيئة “عملية حماية البيئة باعتماد فكرة تدوير النفايات والمواد المستعملة تساعد في القضاء على ظاهرة رمي النفايات، والمواد المستعملة بشكل عشوائي وغير مسؤول”.

ولا يخفي النائب المنهمك في وضع اللمسات الأخيرة على إحدى الشخصيات مستخدما الأسلاك المعنية أن “تطور عمله أجبره على خوض تجارب جديدة تتطلب استخدام أطنان من الحديد المستعمل وقطع السيارات التالفة، خاصة في الأعمال العملاقة (كما يصفها) التي يصل ارتفاعها إلى نحو خمسة أمتار”.

وأشار إلى أن “كثرة الطلبات من المطاعم وشركات السيارات ومحال بيع الألعاب، أجبرته على بناء مخزن لمواد الخردة والحديد المستعمل، ناهيك عن المواد التي يجمعها من النفايات لتأمين مواد أولية لأعماله الكثيرة”.
عبد القادر النائب أثناء إنجازه بعض أعماله الفنية من مخلفات الخردة في الدورة (الجزيرة)
البداية
ويعترف النائب بأن سوء الحالة المادية لعائلته المكونة من سبعة أشخاص أجبرته على ترك دراسته وهو في سن الحادية عشرة من عمره، ويقول “تعرض والدي لأزمة صحية، ما أجبرني على النزول إلى الشارع والعمل في بيع المناديل الورقية وغسل السيارات وأعمال أخرى ساعدتني على تجاوز الأزمة”.

ولفت إلى أن كثرة اطلاعه ساعدته على الاستفادة من موهبته الفنية، وأشار إلى أن إجادته لفن “المصغرات” كان وراء نجاحه الراهن. ويتابع أن خبرته في تنفيذ العديد من الآلات الموسيقية بأحجام صغيرة، دفعته إلى صنع أول دراجة نارية بحجم (خمسة سنتمترات)، حيث استخدم أجزاء من ساعة يدوية محركا لها، مؤكدا “لقد كانت السبب وراء اكتشافي لفن الخردة”.

ولا يخفي النائب أن لأهله وأصدقائه المحيطين دورا كبيرا في تنفيذ أفكاره والبدء بمشروعه الذي لم ينفذ إلا بمساعدة شريكه (ثامر رشاش) “لقد كان لرشاش ووالدي الأثر الكبير في دعمي في مجال عملي الذي أمّن لي جانبا من احتياجاتي. وعن المردود المادي لقاء أعمال الخردة أشار إلى أن العديد من المطاعم وشركات السيارات وبعد اطلاعهم على أعمالي، طلبوا مني إنجاز نماذج لروبوتات وشخصيات عملاقة. مشيرا إلى “أن تكلفة العملاق الواحد زنة أربعة أطنان تصل نحو 3-4 آلاف دولار أميركي، وهو أمر لا يقارن بمدى الجهد ودقة التنفيذ”.
بعض الاعمال المنفذة من الخردة والمواد المستعملة (الجزيرة)
غياب الدعم الحكومي
ولم يحظ عبد القادر وكثير من المواهب بأي دعم حكومي يسهم في تنمية خبراتهم والاستفادة منها في العديد من المجالات، موضحا “لم أطلب أي دعم من الحكومة، لأني أعلم مسبقا الرد، خاصة أن الحصول على المساعدة عادة ما تصطدم بالروتين والإجراءات المعقدة”.

يبرر عضو مجلس محافظة بغداد مازن رزوقي غياب الدعم الحكومي للمواهب بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد إثر انخفاض أسعار النفط العالمية، والتكلفة العالية للحرب على الإرهاب التي باتت تثقل كاهل الحكومة. ويؤكد “أن الأزمة المالية أسهمت في تعطيل العديد من الخدمات في العاصمة، وهو كذلك بالنسبة للمجالات الأخرى التي تأثرت بقلة المخصصات”.

ويعترف رزوقي بأن الحياة لن تستمر دون إثراء الجانب الفني والثقافي في بغداد، التي تعتبر رائدة في هذين المجالين، ويضيف “نسعى جاهدين من أجل رعاية المواهب ودعمهم معنويا، ومن خلال توجيههم إلى الجهات التي تعنى بهم، وبالاستفادة من خبراتهم في بناء المجتمع”.

وبفرح طفولي، أسر لي النائب أن “حب حياته” كان لها دور كبير في كمية الأمل التي تجتاحه رغم الظروف الصعبة التي تكتنف حياته البسيطة.

تركناه وهو يدندن أغنية كاظم الساهر “الشهرة جميلة”، محاطا بأعماله التي تجسد بعضا مما يحمله من أمل وحب تجاه المحيطين به.
6 – “حلم”.. تمرد شبابي بالغناء الصوفي

حين هممت بالدخول إلى قاعة “حوار” لإجراء حوار سريع مع فرقة “حلم” التي اختارت الغناء الصوفي لونا لها، بعيدا عن ذائقة الشباب الطاغية هذه الأيام، كان أكثر ما شدني الكلمات وصدى اللحن الصوفي في أرجاء الحديقة التابعة للقاعة.

وبعد أن أخذت مكاني قبالة الفرقة أنصت مشدوهة بكم الجمال الذي سمعته منهم، قبل أن يبادرني فهد عبد الرحمن قائد الفرقة المكونة من خمسة شبان “لا تعجبي، إن الغناء الصوفي عالم لا يتقنه إلا من أغرم به”.

ويتابع الفتى العشريني الأسمر معرفا بالأغنية التي سمعت “إنها أولى أعمالنا الغنائية التي مزجت فيها الأبيات الأولى لقصيدة العابدة المتصوفة (رابعة العدوية) مع كلمات قمت بتأليفها، لتكون النتيجة أغنية “متسكعين في خمر السماء”، التي نالت استحسان من حضر أولى حفلاتنا الغنائية، فكانت الانطلاقة بالتغني بأشعار رابعة العدوية والحلاج”.
فرقة حلم في مبنى أكاديمية الفنون الجميلة (الجزيرة)
بداية حلم
ويقول عبد الرحمن “حب الموسيقى والغناء جمعنا كأصدقاء في ظروف استثنائية صعبة، ومن ثم كفرقة انطلقت بداية العام 2013 مع أول حفل غنائي”، مضيفا “لقد تدربنا طويلا على أداء الأغاني الطربية لسيدة الشرق أم كلثوم، ولمطربي العراق المشهورين كطالب القرغولي وقحطان العطار وغيرهم من جيل السبعينيات”.

ويواصل حديثه عن نشأة الفرقة بقوله “صادف أن حضرت هذا الحفل سيدة، وبعد أن استمعت لنا طلبت أن نقدم حفلا في إحدى الكنائس، فوافقنا وأطلقنا على فرقتنا في ذاك الحفل اسم (حلم)”. ولفت فهد إلى أن فرقته بدأت تقدم عروضها بالغناء الصوفي والعراقي في الكنائس والجوامع وأماكن معروفة ببغداد.

ويعترف قائد الفرقة أن فرقته لم تكن تعرف بداية مشوارهم إلى أين سيصلون، فقال وهو يضم عوده إلى صدره “جل ما كنا نحلم به هو إقامة حفل كبير ومختلف في بغداد، نستطيع من خلاله أن نغني ونعزف ما نريد، رغبة في الشهرة والعائد المالي، وللاستمرار في مشروعنا الموسيقي”.

وعن اختيار الغناء الصوفي، قال عبد الرحمن “في البداية لم نضع في حساباتنا أن نحترف الغناء الصوفي، إلا أن عملنا الأول كان الحافز في المضي في هذا اللون من الغناء الإنساني، الذي استطعنا أن نجعله صوفيا بنكهة عراقية”.

وأشار إلى أن معظم أغاني فرقته تعالج القضايا الإنسانية والدينية، بأعمال صوفية تلامس معاناة العراقيين. مبينا “أعمالنا هي عبارة عن سيناريوهات يتم مزاوجتها بموسيقى تعبر عن الفكرة التي يراد طرحها على المتلقي”.

وعن أبرز أعمالهم الإنسانية يقول عبد الرحمن “تناولنا التعصب الطائفي من خلال عمل مسرحي موسيقي، ينتقد الأحداث الطائفية التي مرت بالبلاد، كما ساهمنا بعمل عن مرض التوحد عبر موسيقى تعالجه وتحاول التخفيف عن المصابين به”.

ويتابع “كما تطرقنا إلى وجهة نظر المسلم تجاه الديانة المسيحية من خلال عمل “العشاء الأخير”، ليكون عمل (صاحب حسن) لأحمد مطر، الذي ينتقد الواقع الحالي في العراق العمل الذي نال استحسان المثقفين لجرأة فكرته”.
الدين لا يشكل عائقاً أمام إبداعهم الموسيقي (الجزيرة)
كسر القيود
ولا يخفي عبد الرحمن أنه وفرقته يحاولون كسر القيود التي فرضت عليهم بسبب الأوضاع التي تعيشها البلاد بعد أن بات التعصب الديني يقتحم على كل شيء”، قائلا “نرغب بإعادة الحياة المدنية إلى بغداد التي عرفت الشعر والموسيقى والغناء على مر التاريخ”.

ويعترف العازف والمغني مصطفى فالح بأن نشأته الدينية مؤذنا في أحد الجوامع القريبة من منزله أسهمت في تطوير غنائه الصوفي الذي أصبح صفة دائمة لفرقتهم الشابة. ولفت إلى أن الخوف كان يتملك أعضاء الفرقة من تقديم هذا النوع من الموسيقى، باعتبار أنه يقترن بحلقات الذكر والجماعات الدينية، التي تتحفظ على الموسيقى والغناء العاطفي.

وعما إذا كانوا تعرضوا لمضايقات من قبل بعض الجهات، قال فالح “لم نتعرض لمضايقات، لكننا حذرون في التعامل مع الوضع، ونراعي بعض المناسبات الدينية، خوفا من ردة الفعل السلبية من بعض المتشددين الإسلاميين”.

ويستدرك ضاحكا “كنا نخبئ آلاتنا الموسيقية في أكياس النفايات خلال التنقل، سواء من أجل التدريب أو إقامة حفلاتنا في بعض مسارح ونوادي العاصمة”.

ويرى الداعية غيث التميمي، أحد أبرز مشجعي فرقة حلم، أن الدين أفرغ من قيمه الروحية والإنسانية في ظل الصراع الأيديولوجي في البلاد، ويقول “لهذا نرى أن خيارات الإسلاميين تكاد تكون عنيفة، يقابلها تراجع ليس على المستوى الثقافي والفني فحسب، بل كل المجالات الإبداعية في الحياة”. ويجد أن المعادل النوعي للإرهاب هو الحب والسلام.

وعن حلم الصوفية التي انبثقت وسط هذا الصراع أكد التميمي “أن الإبداع لا يتحرك في المجالات الرحبة بل ينبثق من الصخر، وهذا ما على فرقة حلم إدراكه”. ولفت إلى أن عنصر قوتهم يكمن في غنائهم الصوفي وتوظيفهم للمعاناة.
عازف الجيتار علي حسين (خلف) (الجزيرة)
غياب الدعم
ويؤكد عبد الرحمن أن فرقته لم تتلق أي دعم من أي جهة، وهو أمر أثر في عملهم وانتشارهم، “رغم إمكانياتنا المحدودة فإننا حققنا نجاحا بجهود فردية”، ويوضح “دافعنا الأول في تقديم أعمالنا وحفلاتنا هو الحب الذي جعلنا نتواصل ونؤسس فرقتنا التي نحاول الحفاظ عليها تحت أي ظرف”.

ولا يخفي أعضاء الفرقة خيبة أملهم من غياب الدعم المادي والمعنوي لهم كفرقة شابة، الأمر الذي قد يضطرهم إلى مغادرة البلاد للبحث عن فرصة خارجها، مؤكدين أن “رغبتهم بعراق أفضل يكاد يكون حلما يصعب تحقيقه قريبا”.

ويقول علي حسين -عازف الجيتار الوحيد الذي جرى توظيف آلته لتمتزج بآلتي الدف والعود الشرقيتين- “لا أستطيع أن أرى نفسي في العراق، رغم إصراري على العمل للحصول على الفرصة الأمثل لي ولخطيبتي”.

ويعتقد حسين أن أبرز إنجاز للفرقة يكمن في سعيهم لإطلاق الألبوم الأول لهم، رغم إمكانياتهم المحدودة. مشيرا إلى أن جيلا قادما هو باكورة إنتاج فرقة تتألف من شبان همهم أن تكون الموسيقى قضية قبل أن تكون للمتعة فقط.

تركنا “حوار” ومنطقة الوزيرية العبقة برائحة الكاردينيا، على أمل حضور إحدى حفلاتهم القريبة على أحد مسارح بغداد، فالإنشاد الديني والغناء الصوفي يعد رافدا من روافد الموسيقى الدينية المتوارثة في العراق من خلال إقامة حفلات الذكر والمناقب النبوية التي تشتهر بها بعض مدن غرب وشمال البلاد.

7- الرقص التعبيري.. فن ناشئ على مسارح بغداد

عند مدخل منتدى المسرح المطل على نهر دجلة من ناحية شارع الرشيد وسط العاصمة بغداد استقبلنا الراقص التعبيري رسول عباس بابتسامة دافئة وهدوء واضح حتى أنني استغربت أن يكون هو نفسه ذلك الراقص الذي شاهدت بعض أعماله من خلال قناته على يوتيوب.

وما إن تدخل القاعة الداخلية للمنتدى -الذي كان مقرا للبعثة البريطانية في أوائل عشرينيات القرن الماضي- حتى ينتابك شعور بالثراء التاريخي والغنى التراثي الذي أهله لأن يكون مكانا للإبداع ليضفي الموقع سحرا إضافيا على بقعة تتجسد من خلالها بغداد القديمة بكل تاريخها ومعمارها المميز.

ويقول عباس بعد أن اتخذ موقعه في الحديقة الخلفية المطلة على نهر دجلة “إن لهذا المكان مكانة مميزة في نفسي، فمنذ أن دخلت مجال الرقص التعبيري وأنا أحلم بتقديم عروضي على خشبة المنتدى”.

وبدأت عروض الرقص الدرامي أو التعبيري تتخذ مكانة متميزة في الساحة المسرحية العراقية كفن له اشتراطاته الإبداعية والجمالية ونسقه الدلالي المعبر من خلال العروض المنفردة أو ضمن المهرجانات المحلية والدولية التي حاز بعضها على جوائز مهمة.

ويتابع -ونظره باتجاه النوارس التي كانت تحلق على مقربة من المكان- أن سحر المكان يجعلني انطلق بجسدي كيفما أشاء لتقديم لوحة أكثر منها مقطوعة الموسيقية.
الشاب العراقي عباس رسول خلال تجسيده إحدى الرقصات التعبيرية (الجزيرة)
وعن عمله القادم (Noise) الذي سيقدم على خشبة المنتدى، قال “فكرته ترتكز على ثلاث كلمات (الاختناق الفكري والقتل والضوضاء)، فهو ينقل الفوضى الموجودة في الشارع”.
ويشير إلى أنه لا يلتزم بقواعد محددة في تصميم رقصاته أو حركاته، بل إن الفكرة عادة هي من تقوده نحو ابتكار الحركات التعبيرية.

وعن بداياته وقصة احترافه الرقص التعبيري أو الدرامي يقول “كانت البداية في معهد الفنون الجميلة، حيث كل شيء جميل، فحلمي أن أصبح رساما مشهورا، وانشغلت في دراستي للفن التشكيلي إلى أن حضرت أحد العروض المسرحية في المعهد”.

ولفت إلى أن شغفه قاده للانضمام إلى فرقة “مردوخ” التي كان يدير تدريباتها الفنان علي طالب، واستمر بالتدريب والمشاركة في عروض الفرقة حتى عام 2003، ويؤكد أن المرحلة التي تلت التغيير في البلاد حملت الكثير من التحديات.

لكنه يشير إلى أن إصرارهم على المضي في مشروعهم وحبهم للتعبير عن دواخلهم من خلال الرقص قادهم للمشاركة في العديد من المهرجانات على الرغم من الظروف غير المستقرة التي كانت تشهدها البلاد، فقدموا عروضهم على مسارح كوريا الجنوبية ومهرجان بابل الدولي.

وعن طبيعة عروضهم، قال عباس “كنا نستخدم لغة الجسد تصاحبها الموسيقى التي نحاول اختيارها مناسبة للأفكار التي نروم طرحها على الجمهور، بالإضافة إلى عامل الإضاءة الذي يعد مهما في بنية العمل المسرحي”.

ويذكر عباس أن العنف الطائفي وما رافقه من أحداث ساهم في توقف الفرقة، فقد تفرقت بعد تعرضها لإطلاق نار أمام مبنى كلية الفنون الجميلة ببغداد، في حين قتل ثلاثة من أعضاء الفرقة في واقعة أثرت على الوضع النفسي لباقي الفريق.

غير أنه أكد أن التحديات التي مرت به لم توقفه بل على العكس دفعته للعمل مع الفنان العراقي المعروف بالرقص التعبيري والدرامي طلعت السماوي الذي رشحه للعمل في مسرحية “الهروب إلى أين؟” التي شاركت بمهرجان القاهرة التجريبي.

ويعد الفنان طلعت السماوي صاحب الريادة في هذا الفن، فقد أسس فرقة حملت اسم “مردوخ” ليقدم عرضه الأول على مسرح الرشيد عام 2000 تحت عنوان “خطوات إنسان”، كما صمم عددا من العروض كان آخرها “القمر” و”صفر زائد صفر يساوي صفر”، قدمهما في بغداد عام 2012 بقاعة المعهد الثقافي الفرنسي، وتناول فيهما فكرة الصراع على السلطة.
المكان حيز للإبداع المعركة والمقاتل من فن الرقص التعبيري في العراق (الجزيرة)
المكان مسرحا
ويرى عباس أن رقصته “بقايا حرب” التي جسدها على إحدى دبابات الجيش المدمرة كانت تتطرق لذاكرة المقاتل العراقية وصراعه من أجل القضاء على الإرهاب في البلاد.

ويذكر أنه نفذ مجموعة رقصات داخل المتحف البغدادي (الذي يجسد الحياة الشعبية لأهالي بغداد القديمة)، كما أدى رقصة اعتبرها الأقرب إلى قلبه داخل المتحف العراقي بعد افتتاحه أمام الزوار ابتهاجا وحزنا على الآثار التي سلبت وهربت إلى خارج البلاد بعد الغزو الأميركي.

ويعترف بأن المجتمع ينظر إلى الرقص باعتبارها مهنة معيبة للرجال، وأن عائلته ترفض عمله راقصا، وأنها لم تحضر خلال الـ13 عاما الأخيرة أي عرض من أعماله المسرحية.
لكنه أشار إلى أن عائلته الصغيرة تشجعه على الاستمرار، ويؤكد بفرح أن بوادر ذلك ظهرت على ولده الصغير الذي يحاول تقليده خلال تدريباته الراقصة.

وعن الجهات الداعمة لهذا الفن يقول عباس “للأسف لا يوجد دعم كاف من قبل المؤسسات الثقافية مقارنة بما تقدمه منظمات المجتمع المدني التي تحاول مد يد العون للمحترفين بين الحين والآخر”.
أحد عروض عباس المسرحية الراقصة (الجزيرة)
قلة الدعم
وتتخذ عروض البانتومايم والمايم والرقص الحر والرقص التعبيري أو الدرامي والحركي من الجسد وسيلة أساسية في التعبير عن الأفكار والهواجس الإنسانية المختلفة، والتي وجدت في هذا الفن الناشئ مساحة واسعة وحرية كبيرة في التعبير، بحسب ما يؤكده مدير المسارح في دائرة السينما والمسرح الفنان فلاح إبراهيم.

ويرى إبراهيم أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد أثرت بشكل مباشر على المنجز الثقافي، خاصة ما يتعلق بالأعمال المسرحية التي باتت قليلة مقارنة بالسنوات التي شهدت بروزا واضحا للفن المسرحي العراقي.

ولا يخفي أن المشاكل الاجتماعية تمنع العديد ممن يمتلكون الموهبة والمؤهلات الجسدية من الانضمام إلى فرقة الرقص التعبيري التابعة لدائرة السينما والمسرح، كما أن إهمال الدولة للفن بشكل عام أثر سلبا على النتاج الثقافي.

ويجد إبراهيم أن الساحة العراقية مليئة بالمواهب الخلاقة التي تحتاج إلى الرعاية والدعم لينافس أصحابها أقرانهم من الفنانين العرب والأجانب، ويضيف “لدينا فرق خاصة وتجارب فردية أثبتت نجاحها في العديد من المهرجانات، وهو أمر يشكل حافزا أمام الاستمرار في العطاء رغم الظروف الصعبة”.

8- الحاج سعد.. ذاق مرارة النكبة والنكسة

مثقلة بهمومها وأحزانها سارعت نعمة للملمة ما طالته يداها وما سقط عليه بصرها من ملابس وربما بعض الأوراق الثبوتية لتلقيها جميعا في دماية (ثوب) زوجها، وتتأبطها بقوة مغادرة المكان قبل وصول “العصابات الصهيونية”.

لم يختلف مشهد البكجة (صرة الملابس) لدى أغلبية الفلسطينيين إبان نكبتهم عام 1948، فالكل نهل من معين اللجوء، لتغدو مآسيهم قصصا وحكايات تروى وتدون، لتكون شاهدة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

وعن تفاصيل الحكاية يخبرنا الحاج عبد الرحيم سعد الذي دخل عقده التاسع بصحة جيدة وذاكرة لم تصدأ، ولا تزال تحمل كثيرا من “ذكريات اللجوء” حيث حالفهم الحظ بالبقاء بمدينتهم (اللد) لوقت أطول تأخر فيه هجوم العصابات على المدينة.

خرجت أمه نعمة وهي تحمل “بكجتها” وكأنها حقيبة سفر، ووالده وثمانية من الأشقاء حتى وصلوا لمنزل جده عند تخوم اللد، حيث كان يقطن هناك لرعاية مزارعه، ولم يكن الحاج يتجاوز الـ15 من عمره آنذاك، بينما كان شقيقه الأكبر لتوه قد تزوج.

يقول سعد “كان رصاص العصابات الصهيونية قد سبقها لمدينة اللد، وكان المستوطنون يطلقونه من قبانية (مستوطنة) بيت شيمش القريبة، وكانت ساحة المدينة -حيث الدكان الذي نبتاع فيه الخضار- تمتلئ بالطلقات المتساقطة كالمطر”.

كان الخيار بالرحيل مرا ووحيدا، لكنه لم يمنع سعد من اصطحاب مشاهد مدينته الجميلة، لتكون شاهدا على حضور المدينة وشعبها، وأولى تلك الذكريات مطار اللد (بن غوريون اليوم) حيث إقلاع الطائرات العربية -ولا سيما المصرية- والغربية وهبوطها، وكانت بعض الطائرات “من ذوات المحركات الأربعة التي تتسع لأكثر من مئتي راكب”.
المخيم في وعي اللاجئي الفلسطيني محطة انتظار لحين العودة إلى الوطن (الجزيرة)
تهريب اليهود ودعمهم
لم تكن بريطانيا التي أنشأت المطار لتترك وسيلة إلا وتستقدم بها اليهود إلى فلسطين، وما زال الحاج سعد كما آلاف اللاجئين يذكرون “الطابق السفلي” في البواخر وهي تقل اليهود “لتهربهم” إلى فلسطين بينما تشغل الطابق العلوي معدات الإنجليز وبضائعهم.

قبل النكبة كان اليهود يتحضرون بكل قوتهم، وكان الإنجليز يقفون خلف تأمين كافة احتياجاتهم ويستعدون لتسليمهم البلاد، ويذكر الحاج سعد كيف مُهد الطريق أمام العصابات الصهيونية من “شتيرن” و”هاغاناة” و”أرغون”، وزودت بالسلاح الثقيل والكثيف لقتل الفلسطينيين وتهجيرهم، كما نقل الإنجليز أمتعة تلك العصابات وعتادها بالشاحنات العسكرية.

لم يكن الدعم الإنجليزي لليهود بالخفاء ليستمر كثيرا، بل ظهرت مؤشرات قوية تؤكد نية اليهود بالإعداد لتهجير الفلسطينيين، فقد أوعزت بريطانيا قبل النكبة بأشهر قليلة للألمان الذين كانوا يقطنون فلسطين بكثافة آنذاك ويمتهنون الزراعة وتربية المواشي لبيع ممتلكاتهم ونقلتهم لخارج فلسطين، “وكانوا يقولون لنا وهم راحلون إنهم وجدوا من يشتري ممتلكاتها، لكننا كفلسطينيين لن نجد من يفعل ذلك غدا”.
الحاج عبد الرحيم سعد يروي لأحفاده حكاية اللجوء والهجرة من البلاد عام 1948 (الجزيرة)
مجازر اللد
ويقول الحاج سعد إن اللد لم تسقط مباشرة مثل مدن أخرى، بل صمدت لأكثر من شهر، لكنها شهدت أهم المجازر كمجزرة مسجد دهمش، حيث جمعت العصابات اليهودية الأسرى في المسجد وأطلقت عليهم الرصاص وتركتهم يتعفنون داخله، وبعد أيام أتوا بأسرى آخرين لينقلوا جثث رفاقهم “فكانت أيدي الموتى وأرجلهم تفلت منهم بمجرد الإمساك بها”.

من الحي الشرقي في مدينة اللد وبالتحديد بالقرب من حارة السكنة حيث كان يقطن الحاج سعد انطلقت صفارة التهجير صوب منزل جده الحاج فايز بين صرفند واللد، ومنها بدأ “الرحيل المر” بعد ملاحقة اليهود لهم، فساروا ضحى كما آلاف الفلسطينيين صوب وادي قرية نعلين.

ويستذكر الحاج سعد أن طريق الوادي كان “وعرا وتعلوه حجارة الصوان المدببة”، وكيف أصيب جده الحاج فايز برصاص العصابات العشوائي وهو يعتلي دابته، وظل ينزف لساعات.

لليلة واحدة بات الرجل وعائلته بين الشجر في نعلين، ليحالفهم الحظ صباحا وينتقلوا إلى مدينة نابلس على متن حافلة قديمة حين صرخ صاحبها بأعلى صوته نابلس، أريحا، رام الله، القدس “فاخترنا نابلس”.
حلم العودة لم يغادر أيا من المهجرين الفلسطينيين من أرضهم وبلدهم (الجزيرة)
بين نكبة ونكسة
وحال وصولهم مدينة نابلس حطت رحالهم في مدرسة الفاطمية، ليكونوا أوفر حظا من مئات اللاجئين غيرهم الذين كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بين الأشجار وعلى أرصفة الطرق، بعد أن شغلت المدارس والمساجد والحمامات العامة بالمهجرين، “ومكثنا بمدرسة الفاطمية لسنة كاملة، حيث تحولت كل غرفة صفية لمسكنين أو أكثر، وقسمت بين بعضها بقطع من الخيش والقماش”.

وبعد ذلك بسنة أي في العام 1949 شرعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بإنشاء المخيمات للمهجرين.

ربما كان حال عائلة الحاج سعد أيسر من غيرها، فبضع مئات من الجنيهات الفلسطينية كانت بحوزتهم أعانتهم على بدء حياة جديدة والانطلاق بعملهم المعهود في بيع الخضار مجددا.

لم يدم الحال على ما هو عليه كثيرا، فاليهود تكاثرت أعدادهم بشكل سريع وتوسعت أطماعهم، فعمدوا لإسقاط الضفة الغربية الواقعة تحت الحكم الأردني في ذلك الحين، ليمارسوا جرائمهم السابقة بمسمى جديد عرف بنكسة حزيران 1967.

كان الحاج سعد شاهدا أيضا على تلك الجرائم، ويحكي أن الجنود اليهود اقتحموا مدن شمال الضفة الغربية قادمين من المناطق المحتلة بفلسطين الداخل، مثل بيسان وطبريا، في محاولة للتمويه وخداع المقاومين وعناصر الجيش الأردني الموجودين بمقر المقاطعة الذين يستعدون لمواجهة اليهود من ناحية الغرب.

ويتابع القول “كان رتلا عسكريا مخيفا، وكان الجنود يرتدون الكوفية والعقال للتمويه أكثر، فظن الناس أنهم جنود عرب وصاروا يحييونهم”.

لكن الخبر اليقين جاء بعد ساعات قليلة، حيث نشبت مواجهة بينهم وبين الجيش الأردني والمقاومين، لتقوم طائرات الاحتلال بقصف الدبابات الأردنية بقنابل النابالم التي صهرت الدبابات العسكرية، كما أسر جنود أردنيون وفر آخرون، وهي ذات الطائرات التي ألقت مناشير قبل الحرب بأيام تخبر المواطنين بكلمتين “سلموا تسلموا”.

لم ينقطع أمل الرجل المسن الذي يواصل عمله بائعا للخضار حتى الآن من العودة إلى منزله وبلده ولو لمرة واحدة، فبعد فترة وجيزة من “سقوط البلاد” كتبت له زيارة أرضه ومنزله وقد سكنه يهود مغاربة قيل لهم زورا إنه لهم.

عاش الحاج سعد سقوط البلاد مرتين، وعايش أربع حقب حكمت فلسطين هي الإنجليز والأردن واليهود والسلطة الفلسطينية، لكنها لم تنسه منزله الذي سوي بالأرض وبنيت فوقه مساكن لليهود، ولم تنسه أن يروي حكاية اللجوء لأحفاده.

9- قصر الحمراء.. حكاية النصريين التي لا تَقدم
تخالجك مشاعر مهيبة وأنت تدخل قصر الحمراء، مشاعر ما تلبث أن تنعكس على وجهك وحركاتك وطريقة نظرك وتفحصك للمكان، حتى أنه قد يحدث أن تثير استغراب سياح آخرين لن يعرفوا ما بك، وأنّى لهم أن يدركوا، والمرشد السياحي أيضا، أن الجهاز الإلكتروني الذي يستعين به السياح كدليل في المعالم السياحية بغرناطة يبدأ في استظهار حقائق معظمها ملفق، واقتصت من تاريخ مزور. لم يكتفوا بتغريب غرناطة بل يمعنون أيضا في طمس تاريخها.

تبدأ الجولة في قصر الحمراء بزيارة الجزء الخاص بالقصبة أو الحصن العسكري، وهي المنطقة التي كانت مخصصة للجند والعسكر وتخزين الأسلحة والعتاد، تقع القصبة في جزء بعيد عن مكان قصور السلاطين والأمراء.

أشكال السلالم والخنادق والأقبية والسقوف والسطوح، وحتى البيوت الصغيرة التي خصصت لإقامة الجند الملتحقين بخدمة السلطان تتماشى مع الغاية التي بني من أجلها هذا الجزء. أعلاها وبعد سرداب طويل من الدّرج، تصل إلى برج الحراسة الضخم، فوقه انتصبت أعلام إسبانيا وغرناطة والاتحاد الأوروبي، وعلى أطرافه بدت غرناطة كلها مستلقية في الأسفل بين أشجار الصنوبر والحور.

كم وقف بنو الأحمر وجندهم هنا لينظروا إلى غرناطة ونواحيها وبيوتها البيضاء ذات القرميد الأخضر، والتي لم تعد كما كانت، كل الأحياء تغيرت وبقي بعضها فقط على أصالته، تحديدا حي البيازين. وما بقي من غرناطة الأندلس أصبح في عهدة من لا يعرفون شيئا عن حكايا من بناها وسكنها.
مشهد عام لغرناطة من فوق برج الحراسة في القصبة (الجزيرة)
أي بيت من تلك البيوت يا ترى هو بيت أبو جعفر الورّاق وحفيدته سليمة ومريمة وعلي، وغيرهم من الأندلسيين الذين نقلت رضوى عاشور مصائبهم المتتالية وصورت معاناتهم الطويلة في ثلاثيتها عن غرناطة؟

أيٌ من تلك البيوت مازال في قلبها مدفونا صندوقٌ ضخم بداخله نوادر الكتب التي صنعها وكتبها الوراقون الأندلسيون، وخبؤوها عندما بدأت محاكم التفتيش حملتها الصليبية، وانطلقت الأحكام بحبس من يتوفر على كتب عربية مع حرق تلك الكتب؟

أي بيت منها قاموا فيه بتغسيل الجدة المتوفاة والصلاة عليها سرّا في أحد الأقبية، قبل أن يضعوا الصليب فوق جثتها ويشيعوها على الطريقة المسيحية؟ في أي بيت من تلك البيوت استعان الأهل بأسماء قشتالية، وخبؤوا أسماءهم العربية، وتحدثوا بالقشتالية وعلموا أبناءهم سرا العربية؟

من أي من تلك البيوت أخرجوا سليمة وعذبوها وأحرقوها حتى ماتت؟ لا شك أنها كلها بيوت مريمة، وكلها دفنت فيها الكتب، وكلها سجن أهلها، وكلها لبس أفرادها الثوب الأصفر عقابا لهم، وكلها سلب من أهلها حق ممارسة شعائرهم الدينية والتحدث بلغتهم الأم، وكلها قتل أهلها وشردوا وطردوا منها وتم الاستيلاء عليها وعلى ما فيها.

تترك القصبة خلفك، وتلتحق بمنطقة القصور في الموعد الذي حدد في تذكرة الدخول، مرة أخرى شعور بالرهبة يغلف قلبك وأنت تخطو إلى قلب قصور السلاطين والأمراء. عندما أتى محمد بن الأحمر النصري وجد هذا المكان طللا من أطلال قصر بناه أحد ملوك الطوائف، فقرر أن يبني فيه قصر الحمراء الذي كان نواة مملكته.
واحدة من الخصات التي توجد في جنة العريف والتي يتجلى فيها حب وبراعة الأندلسيين في استعمال المياه في تزيين الحدائق (الجزيرة)
يقع القصر بين تل غرناطة المرتفع وجبال “سيرانيفادا” وقد تم بناء قصوره واستكمال حصنه في ظل السلاطين والحكام المتعاقبين على مدى 150 سنة تقريبا، بدءا من العام 749 هجرية، وبعد السلطان محمد بن الأحمر شيد السلطان يوسف الأول -الذي حكم غرناطة بداية القرن الرابع- قصره الذي ضم قاعة السفراء الفخمة، والتي أريد لتصميمها أن يعكس ويرسخ مناعة وقوة يوسف الأول لدى أعدائه، خصوصا وأنه كان يتفاوض معهم فيها.

الشعور بالانبهار والجلالة يلاحقك وأنت تلج القصر، وتتطلع إلى سقوف قاعة السفراء الآسرة، حيث الزخارف الجصية والنقوش المزدانة بجمل وكلمات تمجد الله، في مقدمتها شعار النصريين “لا غالب إلا الله” الذي تجده في معظم الجدران والأبواب والزوايا.

حتى النوافذ المقوسة هنا غاية في الإبداع، بعضها ذو زجاج أندلسي ملون، وبعضها الآخر له تصميمات فنية مختلفة، تسمح بمرور أشعة النور منعكسة بأشكال خماسية وسداسية تحول خيوط الضوء المتسربة إلى آيات جمالية. كان المشهد ينطق بنفسه كأنه يقول أنا عربي، كأنه ينبض وينادي كما صوره نزار قباني في هذا البيت “الزخرفات أكاد أسمع نبضها، والزركشات على السقوف تنادي”.

سقف قاعة السفراء الملكية المطلة على بيوت غرناطة يرتفع بحوالي 23 مترا، وقد صمم من آلاف القطع من خشب شجر الأرز، طبقا لفنون التصميم في العمارة الإسلامية، وهناك من يعتبر أن ذاك السقف آية فلكية منقطعة النظير، إذ يشبه صورة مصغرة للكون، الهدف من إبداعه أن يرمز لقوة السلطان يوسف الأول.
واحدة من الخصات التي توجد في جنة العريف والتي يتجلى فيها حب وبراعة الأندلسيين في استعمال المياه في تزيين الحدائق (الجزيرة)
ولجأ معماريو الحمراء إلى الرياضيات خلال تصميماتهم، من أجل إبداع مساحة تشِعر الزوار بأهمية وشأن السلطان، وأثْروا الرياضيات بتقنيات جديدة وهم يبرعون في استخدام وحدات قياس دقيقة، صمم بناء قصر الحمراء عليها ككل. وفي هذا الجزء أيضا يوجد فناء الريحان الفتان وبركته المائية الشهيرة، بالإضافة إلى “برج قماريش” الذي يعتبر البناء الأكثر علوّا في قصر الحمراء.

أوجّ العمارة الإسلامية الذي شهدته الأندلس خلال عهد السلطان يوسف الأول، استكمل خلال عهد السلطان محمد الخامس، الذي شيد قصرا آخر اعتبر جوهرة قصر الحمراء، ازدان بالزخارف المغربية المذهلة التي تلاعب فيها صانعوها بالظل والنور، وبين مساحات قبابها الممتلئة والفارغة قبل أن يتم تتويجها بألوان زرقاء وذهبية ومختلفة، تكاد تخطف الأبصار.

قاعة الأختين المبهرة هي الأخرى تؤدي من بابها الجنوبي إلى أشهر أجنحة القصر، وهي بهو السباع أو بهو الأسود، تنظر إلى الأسود الحجرية الـ 12 وتتساءل، كيف تفتقت قريحة هؤلاء المعماريين لصناعة تحفة مماثلة؟

الماء مازال يخرج من أفواهها رغم أنه لم يعد متماشيا مع أوقات الصلاة والليل والنهار كما كان في عهد بني الأحمر، ذلك أن الإسبان قاموا بتحريك أحد الأسود رغبة في اكتشاف التقنية التي اعتمدها الأندلسيون، والتي توائم بين تدفق الماء وتغير الوقت، لكنهم لم يستطيعوا معرفة آلية عملها، ولا كيفية إعادتها إلى حالها الأول. وقد صنعت الأسود من المرمر الأبيض، وهي نفس المادة التي تم استعمالها لاحقا خلال إحدى عمليات ترميم القصر، لإعادة تهيئة أرضية البهو الذي كانت جنباته مزروعة بالورد والرياحين أيام الأندلس.
بهو الأسود وتظهر فيه نافورة الأسود وجانب من الإصلاحات التي تتم حاليا في إطار عملية ترميم جديدة لجزء من البهو (الجزيرة)
ومثل باقي جدران القصور وزواياها فإن نافورة الأسود هي الأخرى نقشت عليها القصائد، إذ كان شعر النقوش من الفنون الأندلسية المزدهرة، فيتم تنميق وتزويق النافورات والجدران والحيطان بجميل القصائد.

القيمون على القصر حاليا لم يغفلوا وضع صورة ضخمة تؤرخ لمشهد الملكين إيزابيل وفيرديناند وهما يتسلمان خطاب تنازل أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عنها بعد حصار طويل، وسط الأقواس والنقوش، التي مازالت تشهد على عربية المكان، بل إن عددا من الأواني والمصابيح والمخطوطات والأدوات وغيرها تم وضعها في متحف داخل القصر، يسمح بزيارته ويمنع التقاط صور لما في داخله.

في الجانب الأقصى من قصر الحمراء تقع جنّة العريف، حدائق غناء ممتدة تثير الإعجاب وتبعث على الطمأنينة، إنشاؤها على هذه المساحة كانت الغاية الأولى منه أن تكون فضاء يسرّ الناظرين، ويدخل على أنفسهم البهجة، وثانيا لزراعة الحبوب والخضراوات، حتى تشكل طعام حوالي خمسة آلاف شخص كانوا يعيشون داخل حصن غرناطة.
من سقوف قاعة الأختين, وقد استعمل فيه الزجاج الأندلسي الملون بالإضافة إلى نقوش جصية غاية في الدقة والجمال (الجزيرة)
في أنحاء الجنّة تتناثر أنواع الأشجار وصنوف الأزهار والورود الندية، وتتدفق المياه العذبة عبر النوافير والقنوات، يتطاير رذاذها في عنان السماء مشكلا أقواسا تبدو حبيباتها تحت الشمس كأنها من ماس. وقد كان من عادة الأندلسيين -الذين برعوا في تقنيات مد القنوات واستعمال المياه- الحرص على جريان الماء حفاظا على طهارته، ولذلك لا عجب ألا تجد في كل الاستعمالات المختلفة للماء في قصر الحمراء سواء في السقي والريّ أو في الزينة خصّة راكدة أو بركة آسنة أو مياها ضحلة.

تحالف ملكي “قشتالة” و”أراكون” ونشوء إسبانيا، ساهم في التعجيل بسقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية عام 1492م. بعدها سارع سادة قصر الحمراء الجدد إلى وضع بصمتهم عليه فحولوا المسجد الذي بناه محمد بن محمد النصري داخل القصر إلى كنيسة، كما فعلوا مع باقي مساجد المدينة، وبنوا قصر الملك كارلوس الخامس بجانب القلعة العسكرية، وهو ضخم على الطراز الأوروبي تتوسطه مساحة دائرية شاسعة، رغم ذلك فإنه لا يحظى بذات اهتمام السياح والزائرين بقدر اهتمامهم بقصور النصريين. إنهم بالآلاف في المكان لأجل قصر الحمراء.

وعندما ترقب القصر مساء في سفحه، من حي البيازين، ستمجد جماله ولونه الأحمر غروب الشمس كجمرة متوهجة، وستتحسّر مردّدا البيت الشعري لأبي البقاء الرندي في رثائه للأندلس “لكل شيء إذا ما تم نقصان، فلا يغرّ بطيب العيش إنسان”.

10 – مهرجان “دامسكينا”.. كرنفال وسباق جميلات الورود

في “قلعة مكونة” أو “جنّة الورود” الأثيرية في الجنوب الشرقي للمغرب (أَسامِر-بالأمازيغية) يُقام مهرجان للوردة الدمشقية الأصل، الجورية الشكل، منذ 55 عاما.

كان المهرجان عبارة عن حفل اجتماعي صغير (فيشطة-بالأمازيغية) يقتصر على أهالي المنطقة الذين يعيشون على ضفاف واديّ “مكّون” و”دادس”، كبر الحفل الصغير وأصبح موسما سنويا، إلى أن تحوّل عام 2012 إلى مهرجان له إدارته وخطابه وتوجهاته.

حافظ “مهرجان الورود” على فعاليته الأساسية -الكرنفال ومسابقة ملكة الورود- منذ 1963، وبعد انفتاحه على تجارب العالم في زراعة الورود أضيفت للفعاليات الندوات العلمية والأكاديمية عام 2012.

ارتدت المتسابقات الـ 12 لنيل لقب “ملكة الورود” في المهرجان اللباس التقليدي للقلعة. قفطان وإزار بالأبيض والأسود، و”بلغة” و”تسمّرت” يلبس على الخصر، والشعر مضفّرّ، و”تسبنيت” (حرير أحمر خفيف) يوضع على شعر المرأة، و”تسفينيت” من الحرير يوضع على الرأس، إضافة إلى “تشرفت” المصنوع من الصدف، و”الزعور” وموضعهما مقدمة الرأس.

وضعت لجنة التحكيم المغربية والصينية (شاركت متسابقة صينية في المهرجان) معايير لاختيار ملكة الجمال، تمثلت بـ “جمال الوجه، جمال وتناسق الجسد، جمالية الهندام، وجمال الحركة”. ونالت الشابّة سكينة المقدمي اللقب هذا العام.

لكنّ تمييع لقب “ملكة الورود” لصالح الحركة والجسد، بدلا من المعايير الأصيلة، وهي أن تكون الملكة ابنة القلعة، تربّت على عاداتها وتقاليدها، وملمة بتراثها، بحيث تصبح المنافسة أشرس لمن تتميز بثقافتها ومعرفتها عن الأخرى، لكنّ نزوع لجنة التحكيم في السنتين الأخيرتين للقب “ملكة الجمال” فرّغ المسابقة من حماستها وأثار تململا بين الحاضرين.
فرقة الكدرة تؤدي عرضها في المهرجان بحيث يبدأ العازف بدق إيقاع مرتجل وتردد المجموعة ما يقوله من أشعار (الجزيرة)

قبل انطلاق مسابقة “ملكة الورود” تناوبت الفرق الفنية في تقديم موروثها الغنائي الشعبي، لا تختلف بغنائها الممتد على طوال ضفاف واحة درعا أو مرتفعات الأطلس فقط، لكن زيّها وأدواتها الموسيقية ورقصها يوحي بالطبيعة واللغة الأمازيغية القادمة منها، وينضم لها الرجال والنساء، الفتيات والشبّان.

وغنّت فرقة “زاوية البركة أقلال سيف” من زاكورة، و”مجموعة الركبة” من زاكورة، و”تيزوكزّا” من إيمنتانوت، فرقة “أوّجا إبراهيم وداود لأحيدوس” من قلعة مكونة، “اللوز إمغران” من تندوت، “جمعية تمغرا- أحيدوس” من إملشيل، وفرق أخرى.

نُظّم المهرجان في ساحة “مكونة” الرئيسية أو (ساحة المسيرة الخضراء)، أمام البلدية، وهناك أقيمت الأمسيات الفنية التي شارك فيها الفنان بلال المغربي وفرق شبابية محلية، كذلك أقيمت عروض الكرنفال ومسابقة “ملكة الورد”، وبمسافة ليست بعيدة نُصّب معرض المنتجات المحلية مثل (الأملو، الزرابي، العسل، منتجات الورد، لباس تقليدي…الخ)، إلى ساحة بعيدة أبعد خصصت لفن “التبوريدة” أو “الفنتازيا” الفريد من نوعه ويعتمد على فارس وفرس وبارودة.

حضر المهرجان سيّاح غربيون وصينيون، ويُعزى وجود الصينيين في المهرجان إلى عقد شراكات اقتصادية مع بعض الجمعيات المغربية المنتجة للورد.

أما المحليون، فقد وفد أهالي القرى المجاورة لمكونة، لدرجة أن الحافلات القديمة كانت تنقل الركّاب مزدحمين بداخلها وفوقها، وقد استغلّ المحليون إقامة السوق الأسبوعي ومعرض المنتجات المحلية لشراء لوازمهم المنزلية لاستقبال شهر رمضان.

كذلك استغلّ الباعة الصغار فرش بضاعتهم على جوانب الطرق، وقد يقتني المتجول روايات دوستوفسكي بأثمان زهيدة، أو أحذية أو ألعاب أطفال أو يحظى بقراءة “الكفّ” أو رسم حنّاء، أما الأطفال فقد حظوا ببوظة مثلّجة بعد ارتفاع درجات الحرارة، بعض النساء استغللن أشجارا وارفة الظلّ على الرصيف وتشاركن الطعام تخفيفا للجوع.

ملكة جمال الورود لعام 2017 سكينة المقدمي، واختارتها لجنة تحكيم مغربية وصينية وفق معايير تعتمد على الجسد وجمال الوجه (الجزيرة)

دامسكينا
تعددت الروايات الشفوية حول أصل “دامسكينا” أو الوردة “الدمشقية”. يقول الناشط الاجتماعي والمهتمّ بإنثروبولوجيا المنطقة ميمون تافويت لـلجزيرة نت “يُحكى أنّ أصل الوردة بلاد الشام وتُعرف بـ “دامسكينا” الموجودة حاليا في تركيا وإيران، وجاء بها حسن الأول بعد رحلته التاريخية في القرن الـ 18، حينها استُغلّ الورد في الطبّ الشعبي والحنّاء”.

ويقول مدير مهرجان “الورود” رشدي بوبكر “أوصلها الرومانيون الذين بنوا إمبراطورية لهم بالمغرب وجاؤوا بالوردة لتزيين قصورهم كما في بلاد الشام”. آخرون يشيرون إلى زيارة رجل دمشقيّ للقلعة وزرعها على ضفاف واديّ “دادس” و”مكّون”.

لم تدقق صحة الروايات بعد، إلّا أن الفرنسيين أيام حمايتهم للمغرب أنشؤوا معملا للتقطير باسم “فلورنس” وفق تافويت، وكان المصنع الوحيد الذي يشتري منتوج المنطقة كاملا بثمن زهيد جدا. كان الورد حينها ينمو بطريقة عشوائية في الحقول ويستخدم كسياج لحمايتها من الحيوانات.

يعتاش الفلاحون من مردود الورد، وحتى الآن ظلّت زراعة الورد بالنسبة للفلّاح زراعة معيشية بنسبة كبيرة، ومع تأسيس الجمعيات ومصانع التقطير والتعاونيات بدأت ثقافة الورد تزدهر، وتأخذ أبعادا مختلفة يستفيد منها التجّار بالمرتبة الأولى.

يقول تافويت “في مرحلة ما زهد ثمن الورد وبدأ الفلّاح بالتخلص من شجيرات الورد، لكنّ التقطير بالطريقة التقليدية ساهم بتطور زراعتها مجددا، وأنشئت تعاونيات للفلاحين الصغار من خلال المكتب الفلاحي المغربي لردّ الاعتبار للفلّاح ومعاناته اليومية في القطف، بذلك أصبحت المنطقة تُعرف بجنّة الورود أو ألف وردة ووردة”.

ويرى أن الورد أخذ في المخيال الشعبي ثلاثة أبعاد “قدّس الجيل السابق الوردة واحترمها واعتبرها طعاما، وكان ينتظر الموسم حتى يشتري حاجاته أو يحصل على قوته اليوميّ، لكنّ بعد تعويض الورد بزراعات أخرى بدأ يفقد رمزيته، فتدخلت الجهات الرسمية وشجعت الفلاحين ماديا، وانتقل الورد من المخيال المقدّس إلى المخيال المادي المقدّس”.
فن التوربيدة وهي تراث يعود إلى القرن 15، وتسميتها نسبة إلى البارود الذي يُطلق خلال الاستعراض وتؤدى في المناسبات (الجزيرة)

ماذا المهرجان السنوي؟
انطلق المهرجان في أربعينيات القرن الماضي بنفس الفعاليات (الكرنفال، مسابقة ملكة الورود) وكان معمل التقطير الفرنسي يشارك بالمهرجان من خلال إقامة الخيم وعرض منتجاته، ويفد إليه الناس من كل حدب يحملون أيضا خيمهم والشاي والأكل، ويفرحون لمدة أسبوع في القلعة ثم يعودون.

يقول مدير المهرجان بوبكر “استمرت فقرات المهرجان ذاتها منذ 1963، وهي اختيار ملكة الورد والكرنفال، وأضيفت له الندوات العلمية بـ 2012، وانفتح من خلال الإعلام على العالم”. ويسعى المهرجان إلى “تنظيم المنتج/الفلاح في إطار تعاونيات تنطوي تحت “الفدرالية المهنية المغربية” الممثلة لهم، ووضع رؤية واحدة للرفع من مستوى معيشة الفلاحين”.
النساء في فرقة الكدرة ويلتحفن الملحفة الصحراوية ويبدأن في الرقص مستعملات أيديهنّ، وتنتقل الراقصة الأولى إلى حلقة الرجال (الجزيرة)

البعد الاقتصادي للموسم
على قارعة الطريق وصولا من قرية “آيت يحيى” إلى “قلعة مكونة” وقفنا مع مصطفى (32 عاما) ومحمد (27 عاما) يبيعان بتلات الورد على شكل قلب، عاد محمد من الدار البيضاء ليبيع الورد ويعاون أصدقاءه.

يقول محمد “أحبّ موسم الورد، أنتهز الفرصة دائما للعودة إلى قريتي حتى أمارس هوايتي التي أحبّها” على عكسه مصطفى الذي يعمل بالقرية ولم يغادرها وتقلّ أمامه فرص العمل غير الفلاحة، فيتحول الموسم إلى فرصة اقتصادية قد تدرّ دخلا جيدا على مدار شهر، حيث لا يتجاوز سعر طوق الورد (20 درهما- 2.5 دولار).

على مساحة (ثلاثة آلاف و250 كلم) في واحتيّ “دادس” و”مكون” يوفّر الورد عملا مؤقتا لحوالي عشرة آلاف شخص، يقول تافويت “يسدد الناس ديونهم أو يبدلون بقرة حلوبا بأخرى أكثر مدرة للحليب، كما يتجوّل الأهالي ويقتنون أدوات منزلية ضرورية، لأنهم قادمون من قرى فقيرة، نرى أيضا أن بيوت “مكونة” أصبحت من الإسمنت بدلا من الطين، ويقتني الأفراد السيارات الفاخرة، وقد شاع اللباس العصري”.

11- مقبرة “همايون” أول آثار المغول بالهند

عندما تصل الهند لزيارة المعالم الأثرية والتاريخية وتشد الرحال إلى تاج محل في مدينة أغره، تمهل قليلا في نيودلهي العاصمة. ابدأ من حيث بدأت العمارة التي توجها “تاج محل”. فوسط مدينة نيودلهي تقع مقبرة الملك المغولي الثاني همايون بن ظهير الدين محمد بابر.

حتى قبل بضع سنوات كانت إدارة الآثار الهندية تجهل أهمية مقبرة همايون، لأنها كانت على وشك الانهيار وتحتاج إلى ترميم لتعود إلى هيئتها كما كانت في فترة الحكم المغولي.
كانت “حميدة بانو بيغوم” زوجة همايون قد بنت المقبرة عام 1562 في الذكرى السنوية التاسعة لوفاة زوجها الملك، وبقي هذا المبنى رمزا لحب الزوجة لزوجها. وبني قبل مئة عام من بناء تاج محل الشهير الذي بناه الملك “شاه جهان” ضريحا لزوجته.

يقول البروفيسور على نديم رضاوي أستاذ قسم التاريخ والآثار في جامعة “عليكره الإسلامية” للجزيرة نت إن ضريح أو مقبرة همايون بداية العمارة المغولية في الهند. “كان همايون ثاني إمبراطور مغولي وعمل على ترسيخ حكم المغول في الهند بعد تجارب مريرة في بدايات حكمه”.
الرصيف الذي تقع عليه بناية الرئيسية لمقبرة الملك همايون (الجزيرة)

لضريح همايون أهمية كبرى في تاريخ العمارة والسياسة الهندية، فقد كان بداية العمارة المغولية في الهند، تلاها “تاج محل” في مدينة أغره و”القلعة الحمراء” و”المسجد الجامع” بدلهي القديمة.

ويقول رضاوي إنه كما كانت مقبرة همايون أهم معلم في بداية الحكم المغولي، فقد شهدت نهايته بعد ثلاثمئة عام، عندما اعتقل الاستعمار البريطاني آخر ملوك المغول “بهادر شاه ظفر” في هذه المقبرة التي كان مختفيا فيها.

ولم يحظ ضريح همايون بأهمية سياحية قبل اكتمال ترميمه، ولم تعمل إدارة التراث والآثار الهندية أو وزارة السياحة في الترويج والتعريف بهذا المعلم وغيره من الآثار الإسلامية. لكن اليوم وطبقا للإحصائيات الحكومية فإن ضريح همايون أصبح من أكثر المعالم الأثرية المغولية في الهند، جذبا للسياح من الهند وخارجها.

وقد تولت مؤسسة آغا خان مشروع ترميم المقبرة وآثارها داخل الحرم الذي يقع في وسطه هذا الضريح. وقد اكتمل ترميم الباب الرئيسي لحرم المقبرة والضريح وبعض الآثار الأخرى داخل هذا الحرم. ويجري الآن العمل على ترميم زاوية أخرى تسمى “عرب كي سراي” أو دار الضيوف العرب، كما قالت آرجنا أختر مسؤولة قسم الإعلام في مؤسسة آغا خان.
قبر الحاكم المغولي همايون داخل المبنى التاريخي في نيودلهي (الجزيرة)

وتذكر آجنا أختر للجزيرة نت أن فنانين ورسامين من إيران هم من بنوا وزخرفوا المقبرة. في حين يرى مؤرخون آخرون أن من بناها كانوا عربا. ويعتقد أنه بعد وفاة الملك همايون سافرت زوجته حميدة بانو بيغوم للحج، وعادت من هناك مع عدد كبير من العلماء المسلمين أو الرسامين الذين مكثوا في الهند لبناء المقبرة. وتضم الزاوية العديد من المباني، منها غرف لا يقل عددها من خمسين، ومسجدا ومساحة مفتوحة داخل بوابة.

المقبرة غنية بالزخرفة الإسلامية العربية أو الفارسية، مثل الزخرفة النباتية والهندسية التي تعكس عبقرية الرسامين والفنانين والبنائين في ذلك العهد. وتسمح النوافذ المزينة بالأشكال الهندسية المتنوعة وفي الجهات الأربع بدخول ضوء الشمس إلى القاعة التي يقع فيها قبر همايون.

وتوجد في بعض زوايا حرم المقبرة قبور بعض الأمراء المغول أيضا، مما يجعلها واحدا من أكبر معالم العمارة الإسلامية في الهند، وأقدرها على جذب السياح إلى جانب تاج محل.
الجزيرة نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.