وصلت إلى أوروبا عبر المسلمين في الأندلس ونابليون كان يستهلك 60 زجاجة في الشهر.. العطور وتاريخها المثير!

وصلت إلى أوروبا عبر المسلمين في الأندلس ونابليون كان يستهلك 60 زجاجة في الشهر.. العطور وتاريخها المثير!

وجد لدى الجميع رغبة فطرية في التجمل والتعطر، وتلعب الروائح العطرية المختلفة دوراً هاماً في تحسين نفسية الأشخاص، وتؤثر في عاطفتهم وأحاسيسهم بدرجات متفاوتة.

لذلك، فقد مرَّت صناعة العطور بمراحل عديدة منذ القدم، وحظيت باهتمام بالغ من الأثرياء والعامة على السواء، وتطورت سريعاً لتواكب احتياجاتهم ونمط حياتهم المتغير.

أقدم صانِعة عطور في التاريخ :

تشير المخطوطات الحجرية من الألفية الثانية قبل الميلاد في الحضارة البابلية القديمة، إلى أن الكيميائية Tapputi، التي كانت مسؤولة عن الحرملك أو الجواري في بلاطات القصور، أول صانعة للعطور، عبر استخدامها أوراق الأزهار والدهن والبلسم والماء وبعض المذيبات الأخرى.

لكن العطور عُرفت في وقت أبكر من ذلك، وتحديداً في الحضارة الهندوسية القديمة، 3000 قبل الميلاد، فقد سجلت بعثة عالم الآثار باولو رفيستي، في عام 1975، وجود جهاز تقطير في وادي هندوس، في وقت أبكر بكثير مما كان المؤرخون يعتقدون أن التقطير قد استخدم لفصل الزيوت الأساسية الموجودة في النباتات.

كان جهاز التقطير، والمسمى “تيرا كوتا”، يتكون من أوعية زجاجية، توضع فيها أوراق الأزهار، ويصب فوقها الماء المغلي، ثم تغلق فتحتها بقطعة من النسيج الذي يتشرب بأبخرة الزهور، ومن ثم يتم فصل الزيوت وعزلها في زجاجات منفصلة، وتعد تلك أقدم آلية بدائية لتقطير الزيوت العطرية.

في الواقع، يبدو أن الإنسان القديم، حاول الحصول على رائحة زكية بطرق مختلفة، فقد لجأ أحياناً قبل التوصل لهذه الآليات إلى حرق بعض النباتات التي لاحظ رائحتها المميزة ليحصل على بخورها، خاصة خلال الطقوس الدينية.

وكان المصريون القدماء، أول من مارس هذه الطقوس، اعتقاداً منهم أن الروائح الطيبة تطرد الأرواح الشريرة والشياطين وتجعلهم مقبولين أكثر من الآلهة.

كذلك يصف الإنجيل في أكثر من موضع، تركيبات عطرية مختلفة، أبرزها عطر مقدس يتكون من المر، والقرفة، والكاسيا، والقصب العطري، يستخدمه الكهنة بشكل حصري، دون العامة.

الحضارة الإسلامية.. العصر الذهبي لصناعة العطور :

ساهمت الثقافة الإسلامية بشكل كبير في تطوير صناعة العطور واستخراج الزيوت من خلال التقطير بالبخار، وإدخال مواد خام جديدة.

وكانت الوصايا الدينية الإسلامية، التي تحث على الاغتسال والتطيب قبل أداء الصلوات، وخاصةً صلاة الجمعة باعثاً كبيراً للاهتمام بهذه الصناعة وتحسينها؛ فاستخدموا المسك والورود والعنبر، ومواد أخرى، مثل التوابل والأخشاب الثمينة التي جلبها التجار من إفريقيا وبلاد السند.

كما مزج المسلمون خلاصة العطور مع إسمنت البناء الذي بنيت به حوائط المساجد وحرصوا على تعطير المنبر والفُرش، ودفع ذلك الكيميائيين المسلمين إلى تطوير آليات أقل تكلفة لإنتاج هذه الكميات الكبيرة من العطور.

وفي القرن الـ10، تحسنت تقنيات التقطير إلى حد كبير. بفضل اثنين من أمهر الكيميائيين المسلمين: جابر بن حيان، وإسحاق الكندي، إذ طور جابر تقنيات التقطير والتبخير والترشيح، فحول عطور النباتات إلى بخار ثم جمعه في شكل ماء أو زيت.

لكن الكندي في الواقع، هو المؤسس الحقيقي لصناعة العطور فأجرى بحوثاً وتجاربَ كثيرة للجمع بين نباتات مختلفة ومن مصادر مختلفة، ومزجها ليحصل على مجموعة متنوعة من المنتجات العطرية.

وضع الكندي عدداً كبيراً من هذه الوصفات والتركيبات في كتابه “كيمياء العطور” الذي احتوى أكثر من 100 وصفة لمجموعة واسعة من العطور، ومستحضرات التجميل، والمستحضرات الصيدلانية، ومعدات صناعتها وفصل زيوتها مثل “الإنبيق”.

أشهر هذه الوصفات العطرية هي عطر “الغالية” الذي يحتوي على المسك والعنبر المعتق والمركز، والذي عده ابن الجوزي من النفائس مثل المجوهرات، وروى في كتابه “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم”، أن الخليفة العباسي المقتدر بالله كان مسرفاً في اقتناء النفائس، وكان يملك خزائن من “الغالية” المعتق شديد التركيز.

كذلك لعب الطبيب والكيميائي المسلم “ابن سينا” ​​دوراً بارزاً في تطوير عملية استخراج الزيوت من الزهور، عن طريق التقطير بالبخار، في صورة هي الأقرب من العملية التي تُجرى في وقتنا هذا، وتمكن من الحصول على مستخلص زيتي نقي ومركز ونظيف.

من الشرق إلى الغرب :

وصلت المستخلصات العطرية إلى أوروبا عبر المسلمين في الأندلس، ومن خلال الحملات الصليبية العائدة إلى أوروبا، التي قامت بتبادل تجاري مع التجار المسلمين فجلبوا إلى بلادهم المستخلصات العطرية والزيوت ومواد الصباغة والتوابل وغيرها.

لكن أوروبا عرفت العطور بشكلها الحديث الذي نستعمله حالياً لأول مرة على يد الهنغاريين، الذين قدموا عطراً مصنوعاً من الزيوت العطرية، المذابة في الكحول في عام 1370 بتوجيه من الملكة إليزابيث، ملكة المجر في ذلك الوقت، وعرف في كل أوروبا باسم “المياه المجرية”.

وفي عصر النهضة الأوروبية، بدأت صناعة العطور تتطور أكثر، خاصةً في إيطاليا، وتنوعت المستخلصات العطرية، ومُزجت ببعضها للحصول على روائح جديدة ومختلفة، وصارت موضع تنافس وتباهٍ بين الأثرياء والنبلاء، حتى إن الملكة الإيطالية الأصل كاترين دي ميديسي، عندما تزوجت هنري الثاني ملك فرنسا، أخذت معها تلك المستخلصات العطرية الإيطالية بشكل سري تام إلى فرنسا، وكلفت صانع العطور الخاص بها “رينيه لو فلورنتين” بتطوير مستخلصات خاصة بها شديدة السرية، وكان معمل رينيه متصلاً بقصر الملكة عبر ممر سري، حتى لا تتسرب هذه الوصفات لأي مخلوق!

القتل بالعطور! :

سريعاً، أصبحت فرنسا المركز الأوروبي لصناعة العطور ومستحضرات التجميل، وانتشرت زراعة الزهور والنباتات العطرية، ونشأت صناعة كبرى خاصةً في مدينة غراس بجنوب فرنسا، التي تعتبر عاصمة صناعة العطور في العالم حتى الآن.

واهتم ملوك فرنسا ونبلاؤها بالعطور بشكل خاص، حتى إن عربة الملك لويس الخامس عشر الملكية، كانت تدهن بالعطر كل صباح، كذلك أثاث قصره وفُرشه، وكانت ملابسه تُنقع في العطر لأيام قبل استخدامها.

وطُورت قفازات معطرة خاصة بالنساء، ويبدو أن الأفكار الشريرة عرفت طريقها إلى هذه الصناعة، إذ قتلت دوقة فرنسية في ذلك الوقت، بعد وضع السم في عطر قفازها، الذي امتصه جلدها ببطء حتى ماتت!

أثرت تلك الحادثة بالطبع لفترة في سمعة صناع العطور، وتساءل الناس هل قتلت الدوقة عمداً، أم أن هناك مواد سامة تستخدم في استخلاص العطور وصناعتها؟

نابليون وجوزفين ومستخلص الياسمين :

أنفق القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت ببذخ على العطور، إذ يُذكر أنه كان يستخدم 60 زجاجة من مستخلص الياسمين المركز كل شهر! وكان عطر جوزفين هو المفضل عنده.

كان لللإمبراطورة الفرنسية جوزفين نفس الولع بالعطور، وتميز عطرها الخاص بوجود المسك العربي، ما جعله أقوى، وأطول تأثيراً، وعُرف عنها استخدامها له بوفرة شديدة وبكثافة، لدرجة أن غرفة نومها وسريرها ظلت برائحتها بعد وفاتها بـ60 عاماً!

وصل استخدام العطور إلى ذروته في إنكلترا خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر في عهد هنري الثامن، ثم الملكة إليزابيث الأولى، التي كانت تكره الروائح الكريهة، وتمتلك حاسة شم قوية، لأجل ذلك كان العطر يُنثر في الأماكن العامة والشوارع، خاصة قبل مرورها وتحركها، وتنافست السيدات وصانعو العطور في عرض مهاراتهم وخلطاتهم المبتكرة أمامها.

ومع بدايات القرن الـ19، بدأ التطور الهائل في صناعة العطور، وتصنيفاتها، وخاصة مع التطور المذهل في علم الكيمياء والمذيبات، وطرق الاستخلاص المختلفة، وصارت العطور في متناول الجميع دون تفرقة بين العامة والنبلاء، وأصبحت تعبر عن شخصية مستخدمها وذوقه وميوله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.