مصر لم تعد قلب العالم العربي.. لا تنتظروها وابحثوا عن مستقبلكم

يقول الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، بشير نافع، إن حالة الدولة لا يُحددها تاريخها وحده، كما يحاول بعض المؤرخين إقناعنا، ولا من خلال مكانها الجغرافي فقط، وحتماً ليس من خلال إرادتها السياسية. فدور الدُول يتشكَّل عن طريق تفاعل الجغرافيا والتاريخ والسياسة والموارد معاً.

ويوضح نافع، في مقال له بموقع ميديل إيست آي، أن دور مصر قد ولد من خلال مزيجٍ من هذه القوى، وهو الدور الذي تطوَّر في حياة العرب خلال القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية.

فقد ظهرت قوة مصر الناعمة – إن أمكن تسميتها ذلك – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ينبغي ألا نبالغ في الأمر، فقد وقعت مصر في قبضة المستعمرين البريطانيين في عام 1882.

وسعى البريطانيون لخلقِ مُناخٍ مُتحرِّرٍ نسبياً من خلال العمل على خلفية مشروع التطوير الذي كان يتولاه الخديوي إسماعيل، الأمر الذي جذب عدداً من المسيحيين المتعلمين في الشرق، إلى جانب عددٍ مماثل من العلماء السلفيين الإصلاحيين.

وقد ضَخَّم الدورُ الذي لعبته كل هذه العناصر في الثقافة المصرية، وبشكلٍ أعم في الثقافة العربية، من أهمية القاهرة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إلا أن الحقيقة هي أنه حتى الحرب العالمية الأولى، ظلَّت إسطنبول مركز الثقافة والسياسة في المنطقة.

أولاً كانت هناك إسطنبول

أوضح بشير نافع، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الذي درّس التاريخ الإسلامي في الكلية الإسلامية ومعهد بيركبك في جامعة لندن، أن إسطنبول مثَّلَت وجهةً للمئات من النشطاء المسلمين والعرب، بمن في ذلك الكثير من المصريين. وتشكَّلت القرارات والتيارات السياسية الرئيسية في إسطنبول. ومن إسطنبول، خرج أولئك الذين بدأوا الكفاح ضد الهيمنة الأجنبية.

وإذا كانت دمشق مهد الحركة العربية الأول، فإن أكثر التيارات عروبة نشأت من داخل أطياف الطلاب العرب والمتعلِّمين العرب الذين عاشوا في عاصمة السلطنة.

وأشار إلى أنه بانتهاء دور إسطنبول إثر هزيمة العثمانيين وميلاد الجمهورية التركية، التي جعلت من أولى مهامها عزل وفصل نفسها عن العالم العربي.

ومنذ ذلك الحين، شرع العرب في رحلة صعبة بحثاً عن إطارٍ مرجعيٍ جديدٍ لهويتهم، فضلاً عن التحرُّر من الهيمنة الأجنبية والخلاص من التقسيم المفروض عليهم من بعيد.

نهضة مصر

أكد نافع، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، في معرض حديثه أن الحركة العربية لم تكتفِ بتوسيع آفاقها خلال العشرينات والثلاثينيات فحسب، بل إنها حقَّقَت أيضاً خطوات هامة في مجالات الثقافةِ والسياسةِ المصرية.

وقد جاء هذا التطور مصحوباً بولادة مستوى ملحوظ من الوعي، خاصة بين النخبة المصرية، بما يتناسب مع حجم ومكانة البلاد ومع دورها المحتمل.

وأشار إلى أن الملك فؤاد حاول في عشرينات القرن الماضي، بدعمٍ كبيرٍ من الدوائر العلمانية في دولته، أن يرث منصب الخليفة بعد أن ألغت الجمهورية الخلافة في تركيا. وأحاط الملك فاروق نفسه بالمصريين، سواء الإسلاميين أو العروبيين، الذين تصوَّروا أن مصر يمكنها أن تقود العالم العربي بأسره.

وبالرغم من التردُّد والغيرة السياسية التي شوهدت في كثير من الأحيان في العراق، وسوريا، والمملكة العربية السعودية، فإن العرب ككل رأوا في مصر أهم مركز جاذبية لديهم، وربما حتى مركزهم الوحيد.

ومما لا شك فيه أن ميلاد القضية الفلسطينية، والدور الذي لعبته مصر، أو الدور الذي كان على مصر لعبه، في دعم الفلسطينيين، ساعد في إعلاء نظرة العرب لمصر ونظرة المصريين لبلادهم.

صانع الضمير العربي

ويوضح نافع أنه خلال حقبة ما بعد ثورة 1952، أصبحت العروبة هي الإطار المرجعي الرسمي للجمهورية المصرية. وتحول الاتجاه العربي، الذي كان مثيراً للجدل في الفترة بين الحربين العالميتين، إلى سياسات تحظى باحترام كبير، وُضِعَت باعتبارات استراتيجية، اقتصادية، وسياسية، وثقافية، حتى وإن كانت تبدو مصر في بعض الأحيان هي الطرف المُستضعَف.

وهكذا أصبحت مصر مركز الثقافة العربية ومرجعاً للسياسات. وبدايةً من أواخر الثلاثينيات، قادت مصر صراع العالم العربي من أجل فلسطين ورفعت راية الوحدة العربية. وأصبحت مصر موطناً لجامعة الدول العربية، ودعمت نضال حركات التحرر العربية من أجل الاستقلال وشنت حرباً تلو الأخرى تأكيداً لموقف العرب الناشئين على الساحة العالمية.

نافع أكد في خلال حديثه أن كثيراً من العرب لم يُولوا الاهتمام للأدوار التي لعبتها بغداد وحلب في تطوير الموسيقى العربية الحديثة بسبب مصر، لتصبح مصر وحدها المركز الذي يعترف العرب بكون دوره أساسياً في تشكيل مذاقهم في الموسيقى.

وبالإضافة إلى ذلك، واصلت مصر استضافة الجزء الأكبر من صناعة السينما العربية، لدرجة أن اللهجة المصرية أصبحت مرادفاً إلى حدٍ ما للغة العربية السليمة. وعلى مدار عقودٍ من الزمن، كانت الجامعة المصرية، التي تُعرَف الآن بجامعة القاهرة، وجهةً للعرب الذين يطمحون في تلقي تعليم حديث.

وأشار إلى أن مؤسسات التعليم العالي التي سرعان ما نشأت في عواصم الدول العربية المستقلة حديثاً، اتبعت واحدة تلو الأخرى، مثال الجامعة المصرية وحاكته. ولم يقتصر ذلك على التعليم الحديث.

وعن الأزهر قال نافع إن وضعه لم يتراجع كمعقل للعلوم الإسلامية، لا مع انتشار مراكز التربية الإسلامية التنافسية ولا نتيجةً للصدام المثير للقلق بين النظام الجمهوري وجماعة الإخوان المسلمين.

باختصار، لم تصبح مصر قلب العرب النابض فحسب، بل كانت أيضاً صانع ضميرهم وروحهم الحديثة.

مطبوعة في الذاكرة

يؤكد نافع في مقاله أنه لم يكن من الغريب أن تأخذ مكانة مصر ودورها، الذي استمر أكثر من 6 عقود، حيزاً كبيراً للغاية في ذكريات العرب. ولم يكن ذلك فقط في ذاكرة العرب الجمعية، بل أيضاً في ذاكرة أكبر شريحة من المُراقبين والمُتخصِّصين غير العرب الذين لا يزالون يتصورون مصر كمعيار للوجود العربي ومؤشر للمستقبل العربي.

ويوضح أن غالبية السياسيين والنشطاء ومُدشِّنو الحملات العرب يتصورون أن الأزمات في العالم العربي تضخَّمت بسبب غياب مصر، ويعتقدون أن العرب لن يجدوا مخرجاً من مأزقهم حتى تنهض مصر مرة أخرى، مُعتقدين أن طريق العرب نحو مستقبل أفضل مشروط باستئناف مصر لمسؤولياتها كقائد للعالم العربي بأسره.

ومع ذلك، فإن الواقع يقول للعرب اليوم إنه يجب عليهم أن يعطوا حيزاً أقل لهذه الذكرى وإن عليهم أن يحرِّروا أنفسهم من هذا الأسر، وهذا – كما يقول – ليس لأن مصر فقدت أهميتها أو مكانتها أو حجمها، بل لأن مصر ليست في طريقها إلى الانتعاش أو النهضة، فلا يبدو أن مصر في طريقها لتولي قيادة أي شيء في أي وقتٍ قريب.

حُطام كُليّ

يقول نافع إنه لابد من الاعتراف بأن مصر لم تعد ينبوع الضمير العربي، ولم تعد هي صانعة الثقافة العربية، فالتعليم المصري قد انهار منذ فترة، والفنون المصرية في حالة انحلال، في حين أن وسائل الإعلام المصرية مصدر عار.

وتعاني مصر من أزمةٍ اقتصادية من المُرجَّح أن تستمر لعدة عقود، وتعاني كذلك من انهيارٍ كبير في معظم قطاعات خدماتها، إن لم تكن كلها، من النقل إلى الصحة.

وبالرغم من أن مؤسسات الدولة ليست في حالة جيدة في أية دولة عربية، فقد بدأت الدولة المصرية في الانهيار في وقت مبكر منذ الستينيات وهي في حالة حطام كليّ اليوم.

ويشير نافع في مقاله إلى أن ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 كانت بمثابة شرارة الأمل بالنسبة لمصر. إلا أن انقلاب يوليو/تمُّوز 2013 سرعان ما أطفأ تلك الشرارة، مُستأنفاً التراجع. ومنذ ذلك الوقت والوضع في مصر أسوأ بكثير من أي وقتٍ مضى. فمصر تتطلب تفكيكاً كاملاً وجذرياً للهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية لإعادة بناء دولة جديدة من الصفر.

ومع ذلك، بحسب رأيه، لا يبدو أن مثل هذا الخيار موجود في حساب الطبقة الحاكمة ووسطها الثقافي، كما أنه غير موجود في حساب المعارضة وتياراتها.

ويضيف أنه حتى إن أصبح هذا الخيار قابلاً للتحقيق، فإن الأمر سيستغرق عقوداً قبل أن تتمكن مصر من استعادة جزء من الدور وبعضاً من التأثير الذي كانت تتمتع به في تاريخ العرب الحديث.

ويختم نافع حديثه موضحاً أنه يجب على العرب أن يتوقفوا عن انتظار مصر وأن يتخلَّصوا من هذا الحنين غير العقلاني لدورها الماضي، كما أنهم بحاجة إلى البدء في البحث عن مستقبلهم بغض النظر عما إذا كانوا قادرين على تقديم يد العون أم لا.

هاف بوست عربي

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.