في انتظار كلمة البرلمان النائب العام ووزارة العدل.. انفصال حتمي واستقلالية مطلوبة

“يجب أن يظل القضاء ملاذاً للناس من كل ظالم وملجأ من كل جور وعاصماً من كل عسف”، هكذا يريد رئيس الجمهورية أن يكون القضاء خلال المرحلة المقبلة من عمر البلاد، بل مضى بعيداً وهو يخاطب جمعاً قانونياً العام الماضي، وأكد على فصل منصب النائب العام عن وزير العدل، وما جهر به البشير قبل عام يتوقع أن يتحول إلى واقع خلال شهرين، وذلك حينما يجري البرلمان القومي تعديلاً علي ستة وستين قانوناً من ضمنها ما يتعلق بالنائب العام، وذلك بناءً على مخرجات الحوار الوطني وتماشياً مع سياسة الإصلاح التي أعلنتها الدولة، ولكن تبرز هنا الأسئلة، ما هي مواصفات النائب العام القادم، ولماذا تم الفصل بين الجسمين القانونيين، وما هي شروط تحقيق الأهداف المتوقع من هذا الأجراء؟

استقلالية وأهمية

الرئيس البشير في ذلك المحفل القانوني، قال إن هدف فصل منصب النائب العام عن وزارة العدل الهدف منه استغلال النيابة العامة فنياً وإدارياً ومالياً.. وهنا يشير رئيس القضاء، حيدر أحمد دفع الله، إلى أن منصب النائب العام كان مستقلاً عن وزارة العدل، وأضاف أن النائب العام، وفي إطار الصلاحيات الممنوحة له يعمل مستقلاً تماماً من أجل المجتمع، بعيداً عن العمل السياسي والتنفيذي الذي يضطلع به وزير العدل، وفي ذات الإطار فإن وزير العدل يؤكد أن النيابة تعد إحدى أذرع العدالة ما يتطلب استقلالها استقلالاً تاماً في الجانب المالي والإداري والمهني.

منصب مستقل

في عام 1904 ظهر منصب النائب العام لأول مرة بمسمى المحامي ، كمنصب مستقل عن السكرتير القضائي ولكنه يتبع له، وأول من شغل هذا المنصب مستر بيكون، وكانت مهام المنصب تقديم النصح القانوني للأجهزة الحكومية وتمثيلها في الدعاوى التي تقيمها، أو تقام ضدها، ويقوم بتولي الاتهام في الدعاوى الجنائية، وظهر منصب وزير العدل لأول مرة لدى تشكيل الحكومة الوطنية الأولى عقب إعلان الحكم الذاتي وجلس عليه الشيخ علي عبد الرحمن الأمين، أول من تولى منصب وزير العدل في الفترة الانتقالية، وخلفه عند إعلان الاستقلال الشيخ مدثر البوشي، كان النائب العام يتبع وزير العدل ضمن الأجهزة الأخرى ومن ضمنها مصلحة التشريع، ومصلحة الإدارة، ومصلحة الشؤون الدينية، وأول من تولى منصب النائب العام عقب الاستقلال المرحوم أحمد متولي العتباني، أصبج منصب النائب العام منصباً دستورياً مستقلاً لأول مرة بصدور دستور 1973 والذي نص في المادة 197 منه على أن يعين رئيس الجمهورية نائباً عاماً لجمهورية السودان يكون بحكم منصبه وزيراً ويعدد القانون مهامه واختصاصاته ومسؤولياته.

دواعي الفصل

إذن المنصب ليس جديداً، ولكن السؤال ما هي دواعي الفصل، قد يكون المشير البشير ورئيس القضاء ووزير العدل قد أشاروا الى عموميات أهمية فصل منصب النائب العام عن وزير العدل، يعتقد قانونيون ومنهم المحامي نبيل أديب أن أهمية الفصل بين النيابة العامة والعدل لعدد من الأسباب الفنية، حيث يشير أديب إلى أن ما يعزز من أهمية الفصل أن المبادئ الديمقراطية بالسودان ليست عميقة الجذور بين السلطات الرسمية ولا بين الناخبين عموماً، ويعتقد أن وزير العدل المعين لاعتبارات سياسية يميل إلى الخلط بين مصالح الدولة التي يجب أن تكون حادية لقراراته كنائب عام، وبين الاعتبارات الحزبية الحادية لقراراته كوزير للعدل، ويلفت الى أن الناخبين أنفسهم معرضون للانحياز السياسي أو العرقي أو الديني عند تقييمهم لقرارات السلطة العامة، وقال: السماح للولاء الحزبي بالتأثير على قرار رسمي يبعث على استهجان الشعب، وأردف: الحل الصحيح في ظروفنا هو الفصل بين الوظيفتين، ولكن الفصل بين المنصيبن في غياب تجذر المبادئ الديمقراطية، وعلى رأسها نظام الرقابة المتبادلة والتوازن بين السلطات لا يكفي لتحقيق الهدف المنشود.

الهدف المنشود

الخبير القانوني نبيل أديب قال إن نظام الرقابة المتبادلة والتوازن بين السلطات لا يكفي لتحقيق الهدف المنشود، قوله هذا يفسره بمزيد من الشرح الخبير القانوني الفاضل حاج سليمان الذي أشار إلى أن النائب العام كان سلطة قائمة بذاتها في تاريخ العمل العدلي السوداني حتى وقت قريب، ولم تكن توجد وزارة عدل، وقال إنه عند قيامها أصبحت كل الإجراءات التي تسبق التقاضي من سلطات وزير العدل بصفته التنفيذية والمبادئ الدستورية والعدلية، ولفت إلى أنه في قانون 1974م وما قبله كان هذا العمل يتم بإشراف القاضي والشرطة، والقضاء سلطة مستقلة، وأحد السلطات الثلاث التي تقوم عليها الدولة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، ويؤكد أن السلطة التنفيذية لا دخل لها في عمل القضاء إطلاقاً، وتساءل: وزير العدل سلطة تنفيذية كيف له أن يتدخل في هذه الإجراءات، وأردف: وهو سلطة تنفيذية والخصوم يتطلعون لجهة مستقلة محايدة تتولى إجراءات ما قبل المحاكمة، بالنظر للتاريخ القضائي في السودان ندرك أن منصب النائب العام كان مستقلاً عن وزارة العدلأ وظل منفصلاً باعتباره يمثل المجتمع بينما يمثل وزير العدل الدولة، كما أن النائب العام يعمل من أجل المجتمع وهو أقرب إليهم خاصة وأن وضعيته قانونية، فيما وزير العدل يتم تعيينه سياسياً، وبالتالي يصبح وزير العدل عضواً فى مجلس الوزراء وهو محام للحكومة أكثر من كونه محامياً للشعب.

مواكبة وإصلاح

محامي الحكومة التي ختم بها الخبير القانوني الفاضل حاج سليمان ويعني وزير العدل هي في نظر قانونيين من أسباب المطالبة بفصل منصب النائب العام وضرورة الإصلاح في الأجسام القانونية لمواكبة القوانين الدولية والولائية، وفي هذا يشير الخبير القانوني أحمد شرف الدين الى أنه في إطار برنامج إصلاح الدولة، كان لابد من الإصلاح القانوني وتعديل بعض المواد في القانون بالتوافق والتراضي، موضحاً أنه في إطار الثورة التشريعية التي أعلنتها الدولة من المفترض أن يتم إعداد وتعديل (66) تشريعاً منها ما يتعلق بالعدل، ومنها ما يتعلق بتطبيق المواثيق الدولية والمعاهدات التي صادق عليها السودان ومازالت هناك قوانين تتعارض معها، مشيراً الى أن بعض الإصلاحات تأتي لتلائم بين القوانين الولائية والقانونية، وأضاف أن جميع القوانين لابد من تعديلها بين الحين والآخر لجهة أنه من الممكن أن تكون هنالك بعض الاتفاقيات الدولية تم التوقيع عليها بعد وضع القانون، وفي مثل هذه الحالة لابد من تعديل القوانين حتى يتم الإيفاء بالمعاهدات الدولية.

تقاطع صلاحيات

بعد الفصل المتوقع بين منصبي النائب العام ووزارة العدل يتوقع قانونيون أن تثور مجدداً جدلية التقاطع والتعارض بين الشرطة والنيابات خاصة فيما يتعلق بالتحري، يرى الخبير القانوني محمد زين العابدين أنه لا يوجد تعارض بين قانون النيابة والشرطة لجهة أن هنالك فرقاً بين التحري والتحقيق، فالتحري يعني جمع الاستدلالات بعد وقوع الجريمة والتحقيق معني بالنظر في هذه الاستدلالات ووضعها في إطار القانون للتأكيد من هل هذه الاستدلالات تشكل جريمة أم لا، ويشير الى أن التحري عمل فني تقوم به الشرطة من واقع عملها مثل المعامل الجنائية والفحص والكلاب البولسية ومسرح الحادث وغيرها، ويلفت إلى أن التحقيق مرحلة تقوم بها النيابة باعتبارها الجهة التي تمثل الادعاء العام ولا يوجد نزع أو تداخل في الاختصاصات.

ويقول زين العابدين إن النيابة لم تزل جزءاً من وزارة العدل ويرأسها المدعي العام الذي بدورةهيرأسه وزير العدل، وتماشياً مع القاعدة العامة هي أن العدل أساس الحكم ومنها يكون البناء المتين ووضع المبادئ الأساسية للحكم العادل تعتبر فصل النيابة العامة عن وزارة العدل من وجهة نظر كثيرين خطوة صحيحة تجاه بناء قضاء مستقل يمايز بين المجتمع والدولة.

اشتراطات

وما هي شروط تحقيق الاهداف المتوقعة من إجراء فصل منصب النائب العام، ويعود المحامي نبيل أديب ويشير إلى أن الإصلاحات المطلوبة لمنصب وجهاز النائب العام تتمثل في استقلاله عن السلطة التنفيذية، وفي هذا يقول: يجب عدم الاكتفاء بما يأتي في الدستور أو القانون عن استقلال النائب العام عن السلطة التنفيذية، بل يجب تدعيم ذلك بنصوص تجرِّم أي فعل يرمي لتدخُّل السلطة التنفيذية في عمل النيابة، بالإضافة لمنح النيابة العمومية استقلالاً واقعياً في مواجهة السلطة العامة، بالإضافة إلى الإصلاح الهيكلي، وطالب القانوني أديب بتكثيف التعليم والتدريب لأعضاء النيابة العامة، بالأخص فيما يتعلق بتوعيتهم إلى المثل والواجبات الأخلاقية لوظائفهم، والحماية الدستورية والقانونية لحقوق المشتبه فيهم والضحايا، وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي يعترف بها القانون الوطني والدولي، وأردف: فيما يتعلق بتعيين النائب العام ووكلائه من القانونيين الذين يصرفون مهامه نيابة عنه، فإنه يجب ألا يخضع تعيينهم لإرادة السلطة التنفيذية، وأعتقد أن أكثر جهة يمكن لها أن تحل محل وزارة العدل في تعيين الوكلاء القانونيين هي مجلس القضاء الأعلى، بعد أن يعاد تشكيله بحيث يشمل بالإضافة لرئيس القضاء، ونوابه، ووزير العدل، عددًا من المحامين، وأساتذة القانون بالجامعات، بحيث تغلب عليه الصفة المهنية على الصفة الرسمية، ورأى ضرورة تحصين النائب العام، والمدعي العام، والمحامي العام، من العزل بحيث يتم وضع القواعد التي تنهي عملهم فقط لانتهاء فترتهم أو باختيارهم، كما رأى الخبير القانوني نبيل أديب أهمية استبعاد النائب العام عن المهام الإدارية والمالية، والفصل بين العمل المدني والجنائي، وأهمية رقابة القضاء على قرارات وأوامر النيابات، بالإضافة إلى الرقابة المجتمعية والمهنية.

الحيادية والاستقلالية

ما هي المواصفات المطلوبة في النائب العام القادم؟ طرحنا هذا السؤال على الخبير القانوني أمين مكي مدني، الذي أشار إلى أن الهدف من فصل النيابة العامة عن وزارة العدل استقلالية القضاء وعدم الانتماء لأي من السلطات الثلاث وصاحب رأي مستقل، ويرى أن هذا يحقق العدل بأكبر قدر ممكن، ويقول إن الآراء تتباين حول مواصفات النائب العام القادم، غير أن الخبير أمين مكي مدني يعتقد بأهمية أن يكون النائب العام مستقلاً تماماً ولا يقع تحت أي تأثير حتى لا يفقد الحيادية. وأضاف: الموظف في ظل غياب الحيادية يشعر أحياناً عند اتخاذ قرار بأنه سيعاقب عليه، وهذا لن يجعل النائب العام مؤهلاً لإصدار قرار عادل ومنصف ومحايد، وقال إن الانتماء لجهة محددة تمنح النائب العام مخصصاته يعني ضعف دوره، مشددا على أن الاستقلالية هي المرتكز الأساسي لنجاحه.

ويلفت النظر إلى تجربة المدعي العام في جمهورية مصر يجب الاقتداء به لأنه سلطة مستقلة تعمل لها كل السلطات والجهات “ألف حساب”، وقال إن المدعي العام في أمريكا جهة مستقلة وحيادية يمكنه أن يصدر قرارات وأحكاماً حتى ضد الدولة، ويوضح أن المطلوبات الأخرى بخلاف الحيادية والاستقلالية تتمثل في أن يكون رجلاً قانونياً ضليعاً وصاحب خبرة وشخصية قوية لا تخشى اتخاذ القرارات القوية، بالإضافة إلى الثقة في النفس، وأن يكون مقتنعاً بالوظيفة وأهميتها ودورها في إشاعة العدل.

الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.