“الأحباش” يسيطرون على المشهد العمالي القضارف.. بريق الذهب يسحر عمال الحقول الواعدة

القضارف: الفاتح داؤود

مع بداية كل موسم زراعي وهطول أولى زخات المطر التي تحملها رياح الخريف الباردة تترقب ولاية القضارف تدفق موجات من العمالة الموسمية السودانية الوافدة من داخل البلاد ومن خارجها وهي عمالة درجت على الحضور للقضارف بصورة راتبة فيما يشبه موسم الهجرة شرقاً، وقد ساهمت هذه العمالة الوطنية الوافدة بصورة كبيرة في تشكيل الخارطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالقضارف، غير أن دخول العمالة الإثيوبية في السنوات الأخيرة للعمل في الزراعة بالقضارف، جعل البعض يحذر من حدوث استلاب ثقافي وانتشار أمراض تشكل خطورة على المواطنين، ويرون ضرورة العمل على فرض ضوابط حتى لا تكون لهذه العمالة الإثيوبية تأثيرات سالبة على المجتمع بالقضارف.

حضور في الموعد

تمدد هجرة عمال الزراعة في القضارف عادة إلى ما يقارب العام منذ بداية عمليات التحضير للزراعة والحصاد والذي يمتد أحياناً إلى مرحلة النظافة في رحلة بحث مضنية ولكنها مفعمة بالأمل والوعد والتمني والبشارة عنوانها الأبرز الكفاح والسعي لتأمين الرزق الحلال بالكد والعرق والجهد حتى نشأت بين هؤلاء الوافدين والأرض قصة عشق حافلة بكثير من الحكايات والذكريات استمدت ألقها واستمرارها وتجديدها من ذلك النسيج الخاص والذي شكل عالماً خاصاً له طقوسه ومناخاته فيما يعرف بـ(عمال الكنابي) وهي عبارة عن تجمعات سكنية للعمال داخل المشاريع الزراعية والتي امتد تأثيرها إلى مجتمع الولاية قاطبة من خلال العادات والتقاليد والثقافات التي حملها هؤلاء الوافدون الجدد إلى مجتمع الولاية حتى ألهمت حياتهم الخاصة نخبة من الأدباء والشعراء والفنانين ليتخذوا من تفاصيل ويوميات عالم (الجنقو) حكايات ورويات لم تكتمل فصولها بعد حيث لا زالت هنالك الكثير من الطقوس والشفرات التي لم يتم تفكيكها، وقد ساهمت مجموعات العمالة الوافدة إلى القضارف وبما حملته من قيم ثقافية وعادات اجتماعية صنعت من نفسها عالماً خاصاً ومتفرداً انصهرت فيه كل مكونات السودان بتنوعها الاجتماعي وتبينها العرقي وثراءها الثقافي مما أضفى عليها لوحة إنسانية صادقة جسدت معنى التسامح والتعايش والانصهار الإنساني في أبهى صوره بعيداً عن ضجيج الساسة الممتلئ بالنفاق السياسي والاستغلال والاستثمار في سماحة وبساطة هذا المجتمع.

إتكاءة تاريخية

هجرة العمالة المحلية الوافدة إلى ولاية القضارف ارتبط معظمها بالموسم الزراعي حيث تتوفر فرص العمل في المشاريع الزراعية وقد ساهمت هذه العمالة الوافدة بصورة كبيرة في تشكيل الخارطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالقضارف بل وتعد أحد اهم مرتكزات التنمية الاقتصادية التي ميزت ولاية القضارف عن غيرها من الولايات الأخرى، وتحفل الذاكرة العامة لمجتمع القضارف بحضور مجموعة من الشخصيات من كبار المزارعين من الذين أرسوا ادباً إنسانياً راقياً في التعامل مع العمالة الوافدة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من التكوين النفسي والاجتماعي للمزارعين بالقضارف الذين يتباهون فيما فينهم في طريقة التعامل الراقي والمتواضعة مع العمال والتي جلبت كثيراً من الحب والاحترام والتقدير لشخصيات مثل كرم الله عباس الشيخ والمرحوم حسن بخيت جيلاني وأبناء يوسف عبد اللطيف والمرحوم عمر البدوي وحسين مصطفى أبو عراقي وأبناء هارون وأبرزهم غالب ومعتصم وحسن عمر فاضل وعشرات من مزارعي القضارف الذين قدموا القدوة والمثال في العلاقة بين العامل والمستخدم والتي تعد أكثر إنصافاً من قوانين العمل ولوائحه.

انحسار الظاهرة

ويجمع معظم المهتمين بالزراعة وحركة الاقتصاد بالقضارف على انحسار ظاهرة العمالة السودانية الوافدة إلى الولاية بغرض العمل بالمشاريع الزراعية ويعزون ذلك لجملة من الأسباب لعل من أهمها انفصال الجنوب الذي جرت بعده الكثير من المياه تحت الجسر شكلت تداعياتها متغيرات كبيرة وكثيرة على مجمل حركة الاقتصاد السوداني بعد خروج عائدات البترول من المعادلة وما ترتب عليها من تدنٍ في مستوى المعيشة وازدياد معدلات البطالة وقد أثر فقدان العمالة من أبناء الولايات الجنوبية بصورة سالبة على العمل في المشاريع الزراعية بالقضارف، إضافة إلى ظهور الذهب بعدد من مناطق السودان والذي أدى إلى تدفق عشرات الآلاف من الشباب إلى مناطق التعدين بحثاً عن المعدن النفيس وتحقيق حلم الثروة والثراء السريع حيث نسجت كثيرا من الروايات والقصص عن الذهب مما أغرى الشباب وغذى فيهم روح المغامرة فتركوا الزراعة وهجروا الحقول ليتشكل فراغا عريضا من انعدام الأيدي العاملة والذي شكل مهدداً اقتصادياً كبيراً للدولة ولقطاع المزارعين حينها تم اللجوء للعمالة الإثيوبية لملء هذا الفراغ باستقطاب الشباب الإثيوبي للعمل بالمشاريع الزراعية وفقاً لترتيبات إدارية وتفاهمات سياسية وتدابير أمنية بين الجانبين إلا أن اتساع رقعة الحدود وامتدادها وصعوبة التحكم فيها أغرى شبكات التهريب للدخول على الخط بالعمل عبر السودان بإدخال مجموعات كبيرة منهم ليس هدفهم القضارف ولكن يرنو بصرهم نحو الخرطوم ومنها إلى العالم الخارجي.

ووفقاً لتقديرات جهاز مركز الإحصاء بالولاية فقد بلغ عدد الذين توافدوا على الولاية في العام 2015م حوالي 343.842 شخصا من العمالة الوطنية والأجنبية التي دخلت سوق العمل بالولاية أي ما يمثل نسبة 62% من القوى العاملة بالولاية.

مؤشرات اقتصادية

وظل القطاع الزراعي بولاية القضارف يعتمد في إنجاز نحو 80% من العمليات الزراعية بمراحلها المختلفة على الأيدي العاملة والتي ظلت تتوافد على الولاية من مختلف الولايات وتنقسم إلى عمالة ماهرة ممثلة في شريحة السواقين والكهربجية ومعاونيهم في تجهيز الآليات من تراكترات ودكاسي وحاصدات وغيرها ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الزراعة و(الكديب) التي تبلغ ذروتها بوصول عشرات الآلاف من هذه العمالة مما يساهم في إنعاش حركة السوق وتوفير فرص العمل للسكان المستقرين وكان هناك خليط يلتقي في القضارف بكل سحناته مما يطفي عليها بعداً قومياً يمثل السودان المصغر إلا أنه وبعد اكتشاف الذهب والانفصال ونشوب الحرب في مناطق واسعة من السودان هجرت هذه العمالة سوق العمل بالقضارف للبحث عن مصادر أخرى للرزق، وأشار المزارع الأمين عبد اللطيف إلى أن قطاع المزارعين بالقضارف واجه صعوبات كبيرة لسد هذا الفراغ الذي كانت تشكله العمالة المحلية الوافدة للولاية وذلك بإدخال الآلة والتقانات الزراعية، وأضاف في حديثه لـ(الصيحة): الآن توجد العديد من المشاكل حيث ادى استخدام هذه الآليات إلى إتلاف أكثر من 15% من المحاصيل خاصة السمسم الذي يحتاج حصاده إلى خبرة وجودة، إضافة إلى تلف الأعلاف التي تصاحب عملية حصاد العيش عبر الآلة فضلاً عن التكلفة المادية الباهظة لشراء هذه الآلات التي لا يستطيع معظم المزارعين الحصول عليها في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة لذا لجأنا إلى الإثيوبيين للحصول على العمالة وهي عمالة رخيصة ومتوفرة ويسهل الحصول عليها من بوابات الحدود.

وحول الإجراءات التي يتبعها المزارعون لاستجلاب هذه العمالة قال إنه لا يتم التنسيق بين السلطات الأمنية والمزارع عبر تقديم طلب للحصول على عمال من منطقة القلابات الحدودية بل نحصل عليهم بواسطة سماسرة إثيوبيين من مختلف القوميات بعد دفع رسوم على كل فرد تبلغ في مجملها 60 جنيها حيث يتحمل التاجر تكلفة الترحيل من وإلى الحدود إلا أن التحدي الأكبر يتمثل في عجز التجار من التحكم في حركة هذه المجموعات حيث يتسرب الكثير منها إلى الداخل بسبب عدم وجود وثائق ثبوتية وبسبب رغبة هؤلاء في الدخول إلى السودان حيث فرص العمل المتوفرة وتحقيق أحلام السفر والهجرة.

تدابير صحية

العمالة الوافدة من الخارج تعتبر بمثابة تحدٍ كبير للسلطات المختصة بسبب ما تحمله هذه المجموعات الوافدة من أمراض تصنف ضمن حزام الأمراض الفتاكة مثل الايدز والتهاب الكبد الوبائي والسل الرؤي وهو ما تتطلب تدابير احترازية قائمة على الفحص والتطعيم خاصة أن معظم العمالة الإثيوبية هي مجموعات من صغار السن إذ يبلغ متوسط الأعمار فيها بين 18 و25 عاماً وهي من الفترات الحرجة التي قد تشكل تحديا اجتماعيا وأخلاقيا للسلطات المختصة، وقد أكد مصدر بوزارة الصحة بالولاية لـ(الصيحة) أنهم كسلطات صحية ومن منطلق مسؤوليتهم بصحة المواطنين يقومون بفحص جميع العمالة الإثيوبية الوافدة من الذين يأتون للعمل بولاية القضارف، ولكن عبر القنوات الرسمية حيث يتم فحصهم للتأكد من سلامتهم من أمراض الأيدز والكبد الوبائي والسل الرؤي إلا أن المصدر أكد أن ثمة صعوبات وتحديات تواجه السلطات الصحية في الوصول للعمالة الإثيوبية الموسمية التي تتدفق بمجموعات كبيرة على الولاية وبالتالي يتعذر الوصول إليهم لأسباب لوجستية وإدارية.

إنذار مبكر

وذهب اختصاصي المعامل والتحاليل بالمركز القومي، دكتور حسين صديق، إلى أن القضارف من المناطق التي ليس لها إجراءات قياسية أو قاعدة معلومات ومراكز إنذار مبكر أو كنترول للتحكم بسبب حدودها المفتوحة على مصراعيها لذلك تكثر المخاطر الصحية حتى لو كان الدخول بطريقة شرعية فليس هنالك إجراءات فحص حقيقية ولا أساسيات في التعامل مع الأجانب فإذا تم انتقال أي من الأمراض الفتاكة هذه فالعيب ليس في الأجنبي ولكن في السلطات التي تهاونت مع المرض، مشيراً إلى أن الآثار المترتبة على ذلك هي انتشار الأمراض التي تنتقل من خلال التعامل المباشر مثل الايدز والسيلان والكبد الوبائي وهي أمراض لم تكن منتشرة من قبل بهذه الكثافة ولكن الوجود الأجنبي الكثيف بدون ضوابط قد أدّى إلى تفشي هذه الأمراض.

أبعاد اجتماعية

ويرى بعض أساتذة علم الاجتماع والخبراء أن العمالة الإثيوبية الوافدة أثرت بصورة كبيرة في تغيير أنماط السلوك لدى شرائح عريضة من مجتمع الولاية من خلال انتشار العادات والتقاليد الدخيلة التي تتعارض مع قيم وموروثات المجتمع السوداني المحافظ خاصة وسط شريحة الشباب الذين أصبحوا ضحية للعلاقات الجنسية المفتوحة والمخدرات والكحول الأجنبية بمختلف أنواعها والتي أصبحت متاحة وفي متناول الأيدي بسبب وجود كثير من الأوكار المرتبطة بهذه الجرائم وكذلك بفعل شبكات التهريب التي تنشط طول العام في تهريب الخمور والمخدرات بكل أنواعها رغم الجهود الكبيرة التي ظلت تبذلها الأجهزة الأمنية والتي تكللت بإحباط عشرات المحاولات لإغراق السوق بالمخدرات والكحول، إلا أن مصدراً أمنياً فضل حجب اسمه رأى أن ملف العمالة الوافدة بشقيها الرسمي والمتسلل يتطلب تضافر جهود كل الأجهزة حيث لم يعد مجرد ملف أمني فقط إنما قضية مجتمع ودولة تحتاج إلى تكامل الأدوار وتنسيق الجهود بين كافة العاملين بهذا الحقل.

تأثير

وفي هذا الصدد تشير المهتمة بالشأن المجتمعي الإعلامية مودة بابكر إلى أن وجود العمالة الإثيوبية الوافدة خاصة المستقرة في المهن المنزلية أثرت بصورة واضحة في تفكيك بعض الأسر من خلال السلوكيات المنحرفة والإغراءات التي تستهوي ضعاف النفوس، وطالبت بضرورة إقرار مزيد من التشريعات والقوانين لحماية الأسرة والمجتمع من هذا السرطان الاجتماعي وطالبت ربات الأسر لمراقبة سلوك أبنائهم وعدم ترك الأطفال في أحضان هؤلاء الخادمات حتى لا يتم تشكيل سلوكهم وأفكارهم وفقاً لثقافاتهم وأعرافهم وبالمقابل ذهب المواطن أحمد الجيلي، أن الوجود الإثيوبي الكثيف بالولاية، زاد من نسبة الانحراف وسط الشباب بسبب الفراغ مما دفعهم إلى البحث عن مصادر للدخول تحقق أحلامهم وتحقق لهم الهروب من واقعهم الاجتماعي غير المقبول فوجدوا ضالتهم في المخدرات العابرة للحدود مما أدّى إلى ظهور جرائم مثل القتل والسرقة والتحرش والنهب خاصة في منطقة جنوب القضارف والتي تأثرت بصورة كبيرة.

رياح ثقافية

ينظر قطاع عريض من المثقفين والمختصين إلى ملف العلاقات السودانية الإثيوبية بوصفها علاقات أزلية ضاربة في عمق التاريخ بسبب خصوصيتها وتفردها وانسجامها الذي صهر هذا المكون الإنساني خاصة على تخوم الحدود بين البلدين مما أثر على مستوى النخبة عبر التأثير الكبير لسفراء الفن السوداني في تشكيل الوجدان والذوق الإثيوبي حيث شكل العملاق محمد وردي حضوراً دائماً في المحافل الفنية الإثيوبية في المسارح والصالات والأسواق والبيوت، إضافة إلى تجربة سيد خليفة وعبد القادر سالم وحنان بلوبلو ونادر خضر وندى القلعة الذين أثروا كثيراً على الذوق الإثيوبي، ورأى الناشط نضال التلب رئيس جمعية الصداقة السودانية الإثيوبية بالقضارف، أن العلاقات السودانية الإثيوبية متجذرة وعميقة بسبب الهجرات والتداخل التي ادت إلى التصاهر والاندماج التي أثرت حتى في الأشكال والسحنات، مشيراً إلى أن العمالة الوافدة لعبت أدواراً كبيرة في الترويج والتسويق للثقافة الإثيوبية والعادات والتقاليد التي استحوزت على حيز كبير في الفضاء الثقافي السوداني، مثل عادات اللبس (الزوريا – تفصيف الشعر على الطريقة الحبشية) والأكلات الشعبية (الزغني – والشورو) وطقوس الجبنة التي امتد تأثيرها حتى أصبحت حاضرة في العادات السودانية بالشرق (القضارف – كسلا – بورتسودان).

تصدي مطلوب

فيما طالب الباحث والمختص في الفلكلور والثقافة السودانية محمد جبريل بضرورة التصدي لهذه العادات عبر المحافظة على تقاليدنا وعاداتنا وموروثاتنا الثقافية حتى لا نتحول إلى حالة استلاب وتلقي ونصبح غير قادرين على التأثير في الآخر المتفوق علينا، وذهب الناشط أنس إلى القول إن التأثير الثقافي الإثيوبي يبدو واضحاً في بعض مناطق القضارف أكثر من غيرها، فالإثيوبيون قد عملوا على الترويج لثقافاتهم وعاداتهم وتقالديهم التي أغرت بعض الشباب واستهوت عقولهم وجعلتهم أكثر تفكيراً في معايشة هذه العادات على أرض الواقع بالتسلل إلى الحدود وممارسة كافة أشكال الفوضى وبالتالي السقوط في محاضن الجريمة والمخدرات والايدز مما أثر على تفشي ظواهر اجتماعية خطيرة مثل السرقة والتحرش والنهب وما يتطلب بحسب رأيه من السلطات إعادة النظر في القوانين وضبط الحدود وتصميم سياسات تخاطب هموم الشباب عبر توفير فرص العمل وتنمية القدرات وتيسير أسباب الزواج لقطع الطريق أمام هذه السلوكيات المنحرفة.

إلا أن

رغم حالة المد والجزر التي تسيطر على فضاء العلاقات السودانية الإثيوبية إلا أنها تبقى الأكثر حميميةً وتواصلاً بسبب الجسور المفتوحة على مصراعيها التي ساهمت في خلق كثير من القواسم المشتركة والتي تمت ترجمتها عملياً في المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة لمصلحة الشعبين.

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.