كيف ماتت المضيفة

الخرطوم _ عزمي عبد الرازق
إليكم ما حدث، أو ما سيحدث، أو ما يحدث الآن، لقد ماتت المضيفة، بالفعل، وكانت باردة لحظة انعدام الأوكسجين، تماما وجهها يغص بنضارة الانخطاف، وكان السقوط، ذلك السقوط الحتمي، لجسد ممشوق ولحاظ فارهة، بينما الصعود، هذا الصعود يحتاج إلى طاقة مثلى، أو معجزة أشبه بمعجزة خفتها عند التوازن، وثباتها لدى المطبات الجوية، المضيفة بالطبع، لمائة وثمانين رحلة، أي ما يعادل ألف ابتسامة طرية تهبها للناس في مملكتها الشاهقة، إذ كيف تسنى لها وقد جاوزت الثلاثين بعدة ساعات أن تقاوم رغبة الالتصاق بالأرض، أو بجسد رجل حاذق يحبها، ويدفئها بكلماته.. لتكن أنيقة على الدوام، وتسرح شعرها بحيث لا يزعج المسافرين، وتزرع في منتصف وجهها الخجول، دونما مرة، ابتسامة تبدد رهق التحليق الطويل، وهي جاهزة الآن، الآن أكثر أن تلبي بسخاء ممعن في اللطف كل رغباتهم، حتى تلك التي يستحون منها، واجبها أن تبقيهم سعداء، وتضع أكواب الكابوتشينو والطعام الساخن فوق طاولاتهم القصيرة، ولا تضن عليهم أيضاً بالعصير المثلج، وإنها إذ تدرك كيف هى صائرة إلى مكان موات بالقاع، تؤثر البقاء في الجوار، عادة، ومطلوب منها أن تخبئ عنهم كل ما يجعلهم مكدرين، حتى حقيقة أن الطائرة ستسقط، وهو ما سيحدث، قطعاً في لطمة جنونية، تشيح بوجهها عن كابوس الموت المرعب، وتبقيهم هادئين أكثر، وتهبهم زمنها المختزل في الرحلة، هذه الرحلة المقدرة، آه ثم آه .. لو تعود طفلة، وتجتر أمنيتها بأن تصبح مضيفة عندما تكبر، ليس لمثل هذا، ومما هو مقبل، حتى تموت بعيدا عن فراشها الحنون، وإن كان لابد من إظهار القلق لفتاة أدمنت ركوب المخاطر، والغربة عن بيتها البعيد، فليس قبل أن يشعر به الركاب ـ القلق طبعاً ـ ويضطربون، كأن تتهاوى مثلاً الأطباق والمعالق، ويصدر ارتطامها بالحافة صوت موسيقى، أشبه بموسيقى الجنائز، أو تسقط سترة النجاة المخيفة، على نحوٍ مفاجئ، لا كمعجزة نيوتن، وإنما الطائرة هنا عليها أن تخضع مكرهة لقانون الجاذبية اللعين، السترة مقابل السقوط المجلجل، ولا يمكن في رحلة العدم هذه أن تصرخ ذات المضيفة، فهي مثل عازف التشيلو القابع بفيلم التايتنك، يكافح بشراسة ليصرف المشاعر بعيدا عن فكرة الموت المحتمل، بل المرجح، حتماً سوف تصرخ المضيفة بعيد أن تتأكد أن النيران التهمت الجميع، ولن يلحظ ذلك أحد، حتى لا يشاع في العالم، وبافتضاح كامل أن المضيفات يثرن هلع الركاب المساكين، وبالغا ما بلغ الأمر، معهود على فطنتها كامرأة بالغة النضج والعذوبة أن تمنح الأطفال، أطفال الطائرة، نومة أخيرة وهانئة، إذ لا يعقل أن يحترقوا على الهواء مباشرة، بعيون مفتوحة، وفي فيلم رعب حقيقي، لم يكن يسمح لهم بمشاهدته على التلفاز، واجبها ـ المضيفة ـ أن تعدهم لموت مباغت، لا يتهيأون له بصورة معقولة، وكان عليها أن تتظاهر برباطة جأش، كونها شجاعة، تنحني برفق وتلتقط ذكرياتها لتخبيها، لا أن تتصفحها بحنين جارف، وأن تهش على صور العائلة والأصدقاء كما تهش على الذباب، حتى لا ينهمر دمعها المكبوت، أو تدفن وجهها بذلك الأسى الكثيف في حضن أمها، وما أمها إلا محض ذكرى تكتسي بحقيقة متجددة، وهي أن تتناسى، بمعاظلة كونها أنثى محبوبة، وأما لطفل جميل قدر له أن لا يولد بعد، حتى تغادر الوظيفة، إذ لا يسمح بالضرورة لامرأة حبلى أن تبدو كمضيفة، أو تضرب وعدا لعاشق في ميقات رحلتها المواتية، لا مفر إذن من فحص الطائرة والتأكد، أن ثمة شخصا يحتضر، ويرغب في شرب النبيذ ليموت مخدرا، وبمقدورها أن تترك ذلك الانطباع الجيد، في ما تبقى من عمرها، أنها لم تغادر ردهة الركاب، مطلقاً، وتنتهز فيض معرفتها بمخارج الطوارئ، وتنشد لنفسها الأمان المطلوب بإلحاح، ولا يتوفر بالضرورة حتى لأثرياء الرحلة، تلتفت بخفة لرجل مسن يبحث عن حقيبة الدواء، تنقذ حالته الحرجة قبل الارتطام، وبمهارة توزع الطعام على من تأجل موتهم لحين، دون أن يخطر على بالها أن تنتهز حالة الفوضى وتتناول بعض المهدئات، إذ لم ينجح راكب في العالم كله في مداهمة مضيفة تلبي رغبات معدتها داخل الطائرة، مثل أن تشرب القهوة أو تتناول الطعام .. كانت تدرك لوهلة طويلة، أطول من فزع اللحظة القاتلة، أنها ستموت في يوم قريب، قريب جداً، وغالباً كل رحلة تنذر بخطر جاثم، جاثم كسحابة سوداء، ربما نتيجة لإرهاق الطائرات بالعمل المضني، وعدم فحصها، أو لسوء الأحوال الجوية، إن لم يكن ثمة انفجارا عارضا، أو شخصا يائسا ومتطرفا راغبا في الانتحار، ستموت حتماً ـ المضيفة ـ وسيهرع الصحافيون، بولع مطاردة الحقائق، لفض سرها الباتع، والذي قررت أن تموت عليه، جميلة وهادئة.
سيداتي سادتي الرجاء الجلوس في مقاعدكم وإبقاء أحزمة الأمان مربوطة إلى حين توقف الطائرة .. وشكراً

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.