إمبراطورية شارع الحوادث

خيراً فعلت وزارة الصحة بولاية الخرطوم، حينما قررت قفل حوادث مستشفى الخرطوم وتحويل الخدمة إلى عدة مستشفيات أخرى بالولاية، إذ لا جدوى لهذا التركيز الشديد لخدمة حيوية وحساسة في منطقة واحدة وضيقة مثل التي تقبع فيها حوادث الخرطوم.
الخرطوم اليوم ليست هي خرطوم العشرينات والثلاثينات، ويتعين على مستشفى الخرطوم أن يدور مع المتغيرات حيث دارت، وأن تتكيف الخدمة الطبية مع الظروف والواقع، فليس هناك أي جدوى لبقاء حوادث مستشفى الخرطوم على ما هي عليه وفي هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، إذا كان بالإمكان تقديم هذه الخدمة في مناطق أخرى من العاصمة.. إن الجدوى الحقيقية لأية خدمة سواء كانت طبية أو تعليمية تكمن في أن تأتي للمواطن بدلاً من أن يسعى إليها.

بقرار إداري جريء تنتهي اليوم إمبراطورية شارع الحوادث، وتضعف القيمة السوقية والاقتصادية لهذا الشارع الذي يضم على الجانب الشمالي له صفوة الأطباء السودانيين الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية في تخصصات غير متوفرة في كثير من مدن السودان الأخرى.
هذا الشارع كان شاهداً على أكبر مفارقة طبية يمكن أن تحدث في أي بلد من البلدان، فبين مساحة لا تتعدى ثلاثين مترًا هي عرض شارع الحوادث تشخص الشواهد الحية على عجز الحكومة عن تقديم خدمات طبية مجانية جيدة ومتكاملة، وتنهض ذات الشواهد على قطاع خاص استثمر في هذا العجز الحكومي لتقديم خدماته للمرضى بأسعار هي على علاقة عكسية بين التقارب الجغرافي للمشافي الحكومية والخاصة وبين أسعار العلاج عند الاثنتين.

حوادث مستشفى الخرطوم كان دليلاً وبرهانًا حياً على حاجة الخرطوم قبل حاجة الولايات إلى تفتيت هذا التركز الشديد للأطباء في شارع واحد، ليس لدي إحصائية دقيقة عن عدد الكوادر الطبية التي تعمل في الجانب الشمالي لشارع الحوادث، لكني أقدر أنها بالآلاف وليس المئات.

أليس غريباً أن يتكدس مئات الاختصاصيين والأطباء وآلاف الكوادر الطبية في شارع ضيق شمال مستشفى الخرطوم، في حين تخلو مجمعات سكانية كبيرة داخل الخرطوم بها مرافق طبية من وجود أقل القليل من هذا العدد؟. أليس غريباً أن يزحف الملايين من المرضى وذويهم من الخرطوم والولايات عند الحالات الطارئة إلى حوادث مستشفى الخرطوم ويصلون إليها بعد خراج الروح؟
الغريبة أن شارع الحوادث ليس له كبير نصيب من اسمه، فرغم أنه مسمى على قسم الحوادث، لكن معظم الحالات الطبية لا علاقة لها بحوادث مستشفى الخرطوم، لأن قسم الحوادث نفسه في حالة يرثى لها، ولأجل هذه الحالة قامت المبادرات الشبابية لإعانة المرضى.
استبعد جدًا أن يكون هناك بعد شخصي للدكتور مأمون حميدة في هذا القرار الجريء، لو كان هناك دافع شخصي للدكتور مأمون حميدة، فإن هذا يحفز الرجل ويشجعه على الإبقاء على مستشفى حوادث الخرطوم على ما هي عليه حتى تستفيد مستشفى الزيتونة، فليس بين شارع الحوادث بوضعه الحالي وقيمته الاقتصادية العالية وبين مستشفى الزيتونة الذي يملكه الرجل سوى بضعة أمتار.

مالك طه
المصدر: صحيفة الرأي العام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.